أهمية حضرموت في المشهد اليمني:
تقع محافظة حضرموت في شرق الجمهورية اليمنية، يحدها من جهة الجنوب بحر العرب، ومن الشرق محافظة المهرة، ومن الشمال المملكة العربية السعودية، ومن جهة الغرب محافظات شبوة، ومأرب، والجوف. وتشمل مساحة المحافظة نحو 36 % من مساحة الجمهورية البالغة نحو 555 ألف كم2، وهي تضم عددًا كبيرًا من المديريات، موزعة ما بين منطقتي الساحل والوادي، وتعد مدينة المكلا هي عاصمة المحافظة، وأهم مدنها الشحر في الساحل، وسيئون وتريم وشبام في الوادي.
وتقع حضرموت على شريط ساحلي طويل ممتد على بحر العرب، وتنتشر فيها عدة موانئ للنقل، ومرافئ للاصطياد، أبرزها ميناء المكلا (خلف) التجاري، وميناء الشحر (ضبة) الذي يعد أحد خطوط النقل اليمنية الثلاثة الرئيسة لنقل النفط الخام من مناطق الإنتاج إلى المنافذ البحرية، وقد أنشئ في العام 1993، ومنه يتم تحميل وشحن السفن بالنفط الخام من المسيلة وشرق شبوة وغيرها من الحقول القريبة.
تمثل حضرموت إحدى أكبر مصادر إيرادات اليمن، حيث توجد ثروة كبيرة من الموارد الطبيعية، وتوجد في حضرموت عدة حقول نفطية تعد أكبر رافد لخزينة الدولة، حيث تصدر حقول النفط في حضرموت أكثر من 80% من النفط اليمني، وأهم هذه الحقول حقل المسيلة الذي بدأ إنتاجه في العام 1993، كما تحتوي المحافظة أراضي شاسعة صالحة للزراعة، ومناطق ساحلية غنية بالأسماك والأحياء البحرية، ولديها عدد من نقاط الدخول للتجارة الدولية عبر مطارات وموانئ متعددة، وكذلك حدود برية طويلة مشتركة مع السعودية عبر الصحراء.
وهكذا فإن عوامل وأسباب كثيرة جعلت حضرموت تتبوأ مكانة مهمة في الخريطة السياسية والاقتصادية في اليمن، وكذلك لدى الدول المجاورة لها، بل ولأطراف إقليمية ودولية، ولاسيما في السنوات الأخيرة حيث زادت حدة الاستقطابات الداخلية والخارجية؛ نتيجة للصراعات السياسية، والنزاع المسلح الذي أدى إلى ضعف مؤسسات الدولة في اليمن منذ عام 2014.
فكما تدرك القوى اليمنية أهمية حضرموت، فإن الفاعلين الخارجيين- خاصة في السعودية والخليج – هم أيضًا على إدراك واع بأهمية حضرموت، ولديهم القدرة على التعامل معها مستفيدين من وجود كتلة سكانية حضرمية كبيرة هاجرت إليها قديماً، واستقرت في السعودية، ودول الخليج العربي، بل صار بعضهم جزءاً من التركيبة السكانية لتلك الدول، ويعمل رجال الأعمال الحضارم في الداخل والخارج، وخاصة السعودية، ويحققون إيرادات كبيرة.
ويتمتع رجال أعمال حضرموت بسمعة حسنة بوصفهم الأوفر حظًا في نجاح مشاريعهم، والأكثر تمكناً وانضباطاً في العمل التجاري في اليمن، ويشمل المغترب الحضرمي قوى عاملة ماهرة ومتنوعة نسبياً، ووجود عدد كبير من العاملين الخبراء المؤهلين، فضلا عن وجود مجموعة تجارية ثرية استفادت مما تتمتع به المحافظة من استقرار نسبي مقارنةً بأماكن غيرها من اليمن، حيث تشكلت فيها مناخات جاذبة للاستثمار، وشجعتهم على إعادة استثمار جزء من أموالهم في المحافظة بوصفها موطن الأجداد.
تجربة السلام في حضرموت ومحركوها في القرن المنصرم:
اهتم المجتمع في حضرموت في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات بتفاعلات تجربة جديدة وحديثة كان لها الأثر الواسع والعميق في الأوضاع العامة ولاسيما السياسية والاجتماعية، وهي السلام وتطوراتها في حضرموت، وذلك بوصفها شأنًا عامًا، ومطلبًا شعبيًا، اقتضته ضرورة العصر ومتطلباته، مع عظم انعكاساتها الإيجابية على المجتمع الحضرمي.
ومعلوم أن مجتمع حضرموت يتكون من عدد من الشرائح التراتبية، تعارف عليها المجتمع منذ عصور قديمة، وترسخت بتقادم الزمان، وارتبطت ترتيبها بضوابط وظيفية ذات طابع اجتماعي، وليس عنصرية أو عرقية بأي حال من الأحوال، وتأتي القبائل في السلم الثاني أو الثالث في تلك التراتبية الاجتماعية بعد السادة والمشايخ، ويتسم المجتمع القبلي بارتباط أعضائه فيما بينهم برابطة النسب والقرابة، ويعيشون غالبًا في منطقة جغرافية محددة، وقد يكونون بدوًا رحلاً، ويتميز بلزوم حمل أفراده السلاح مشكلين القوة الفعلية المسيطرة على زمام الأمور بحضرموت.
كانت القبائل تعيش صراعًا مزمنًا فيما بينها حول قضايا متعددة، أبرزها التنافس على موارد الرزق والأخذ بالثأر، وفي مطلع العصر الحديث أخذ ذلك الصراع بعدًا آخر بدخوله معترك السياسة لدى محاولة إقامة دولة في حضرموت تنافس فيها أكثر من طرف سياسي، فكل طرف صار يستعين بقوة القبيلة في حربه للسيطرة والنفوذ، ثم انحصر ذلك الصراع السياسي بين الطرفين القعيطي والكثيري اللذين تقاسما حضرموت في دولتين، كثيرية تسيطر على مدينتي سيئون وتريم وما جاورهما، وقعيطية تسيطر على ساحل حضرموت، وعلى عدد من مدن الوادي كالقطن وشبام.
ولدى سعي تلكما الدولتين بسط سيطرتهما على مناطق حكمهما اصطدمتا برفض القبائل في الخضوع لأنظمتها ولولاتها، ومن ثم أخذ الصراع في حضرموت بعدين أساسيين، بعد سياسي بين الدولتين بسبب عدم وضوح حدودهما، وبعد قبلي بين كلٍّ من الدولتين وما يقع في أراضيها من تجمعات قبلية نافرة من فرض الدولة سيطرتها على مناطقها، وعلى ما تحتفظ به من أعراف بعيدًا عن قوانين الدولة، أو ما تتمتع به من موارد ارتزاق تسعى الدولة للهيمنة عليها.
واستمر ذلك الصراع مع عدم قدرة أي من الطرفين على حسمه، سواء سياسيًا أو قبليًا، ومما زاد من ضراوته أن استعملت فيه أسلحة حديثة كالمدفعية، ومع تطاول أمده تدخلت فيه قوى أخرى إقليمية كدولتي اليمن والسعودية، ودولية كدولتي تركيا وبريطانيا، وفي النهاية تغلب الحضور البريطاني في السياسة وفي المشهد العام بحضرموت، وقد اتخذت بريطانيا لذلك التدخل سبيلين، أولهما بعقد المعاهدات مع الحكام المحليين من قعيطيين وكثيريين، والآخر بإرسال من يعمل على التعرف العميق على طبيعة حضرموت وأوضاعها، واختارت لهذه المهمة واحدًا من رجالها يتمتع بالاقتدار العسكري والإداري يدعى وليام هارولد إنجرامس (ت 1973)، صار بعد ذلك أبرز رجل في المشهد السياسي الحضرمي.
اهتمت بريطانيا في البداية بحسم الصراع السياسي بين الدولتين القعيطية والكثيرية بتحديد حدودهما، وتنظيم العلاقة بينهما وخلق نوع من التنسيق في السيطرة على مناطق نفوذهما، وبعد أن اطمأنت بريطانيا إلى انتهاء الصراع السياسي، واستقرار العلاقة بين الدولتين الحضرميتين المتنافستين، بدأت تعمل على إيجاد حلول للصراع القبلي بقصد تأمين بسط سيطرة كل دولة منهما على المجتمع القبلي في مناطق نفوذها، وتوطيد الأمن العام في مختلف مناطق حضرموت خارج المدن حيث يتزايد النفوذ القبلي، وكان إنجرامس هو المحرك الأساسي لهذا الشأن بحكم ما كونه من معرفة بطبيعة حضرموت أرضًا وبشرًا، وبقدرته على كسب الشرائح المؤثرة في المجتمع من سلاطين وسادة وزعماء قبائل، ولاسيما شخصية أبي بكر بن شيخ الكاف بمكانته الاجتماعية والمالية، ثم باستناده لهيبة دولته البريطانية بما تمتلكه من قوة ضاربة ومكانة عالمية.
بعد عقده لعدة اجتماعات مع تلك الشرائح المؤثرة، وما تمثله من نفوذ في الأوساط القبلية، جرى تشكيل لجنة أطلق عليها اسم (لجنة أمان حضرموت)، تكونت من سبعة من الشخصيات الحضرمية المؤثرة آنذاك، هم: السلطان علي بن صلاح القعيطي، والسلطان عبد الله بن محسن الكثيري، والشيخ سالم جعفر بن سالم، والشيخ عوض عزان بن عبدات، والمقدم العبد بن علي بن يماني، والأستاذ محمد هاشم بن طاهر، والقاضي محمد بن شيخ المساوى، ومن خلالها أعلن عن مشروعه للصلح، واقترح أن تكون مدته عشر سنوات، وبعد المداولة مع أعضاء اللجنة وبعض ممثلي القبائل جرى الاتفاق على أن تكون مدته ابتداء لثلاث سنوات، وتكون قابلة للتمديد، يبدأ من بداية عام 1937، وينتهي بنهاية عام 1939.
تلا ذلك السعي الحثيث لإقناع كل قبيلة على حدة بالتوقيع على معاهدة الصلح، وأن تتعهد بالالتزام به، وبالاحتكام للدولة التي تقع ضمن أراضيها لحل الإشكاليات الطارئة، والرضا بحكمها الذي تقرره، أو حكم من يمثلها، ونشرت صحيفة المنبر، التي كانت في المكلا، خبر الاستجابة لدى بعض القبائل، ومن ذلك خبر الصلح بين بعض فروع قبيلة نهد إحدى كبريات قبائل حضرموت، وقد جاء الخبر على لسان شخصية حضرمية اجتماعية وسياسية معروفة، هو عبد القادر بن أحمد بافقيه، جعل عنوان خبره (حل أعظم مشكلة بحضرموت)، وورد فيه:
“لقد انتهت فتنة نهد روضان (آل بن عجاج وآل ثابت)، التي دامت عشرين عامًا فأتت على الأخضر واليابس في ديار نهد؛ فاهتزت كل الأوساط الحضرمية لإصلاح أعظم قبيلة بحضرموت فرحًا وسرورًا.
نزل الفريقان على حكم الزعيم الأكبر السيد أبي بكر بن شيخ الكاف ونائب المستشار المقيم المستر فجس، فحكموهما فيما بينهم من تنازع ومشاكل كلت في إصلاحها رجال الإصلاح، فصار الحكم من الزعيم والنائب بحسم جميع المطالبات القبلية، وبهدم أربعة حصون والتعاون على عمارة أرضهم، وعسى تساعدني الظروف فأشرح لقراء المنبر الأغر هذه المسألة إيضاحًا”.
ثم علقت المنبر على الخبر بقولها:
“لم يخطئ حضرة الزميل في تسميته هذه الفتنة بأعظم مشكلة في حضرموت، فقد تعطلت بسببها طول هذه العشرين سنة زراعة أراضي روضان التي لا تقل محصولاتها عن ربع حاصلات حضرموت بكثير، على أن حلها لم يأت إلا بعد أن استدعى حضرة المستر فجس فرقة من العساكر من شبام، وبعد أن طلب من سيئون صناديق البارود التي استعد بها من المكلا لنسف تلك الحصون، أو قل قرون الشر، ومعاقل الفوضى؛ ولا غرابة فهكذا الجهل جعل الحضرمي لا يجنح إلى الخير إلا بدافع من القوة” (المنبر العدد4و5، ربيع الأول والثاني 1358، مايو 1939).
والخبر يشير إلى الضامن لنجاح الصلح وثباته، وهو التلويح بالقوة العسكرية عند المخالفة، ولاسيما سلاح الطيران، وقد تم لاحقًا استعمال تلك القوة فعليًا ضد بعض القبائل أو الأطراف المخالفة، واستمر ذلك الصلح متماسكًا مع ما شابه من اختراقات محدودة طيلة السنوات الثلاث، ولنجاح إنجرامس في تلك المهمة جرى تكريمه بتعيينه مستشارًا مقيمًا لدولتي حضرموت، وصار يشرف بنفسه على النزول لمناطق القبائل، والتأكد من تثبيت الصلح، ومثله نائبه المستر فجس، مع بعض الشخصيات القيادية المحلية مثل المقدم صالح علي الخلاقي، والأستاذ عمر محيرز.
ومع ما صاحب تجربة السلام، وفرض الهدن في القبائل من عمليات مسلحة قد تلجأ إليها بريطانيا والحكومة المحلية، إلا أنها أيضًا قد صاحبها تقديم لبعض الخدمات الاجتماعية، كالمجال التعليمي التربوي، باستقدام خبير سوداني في ذلك المجال، وهو السيد السوداني القدال الذي صار له بعد ذلك حضور فاعل في السياسة الحضرمية، وكالمجال الطبي والرعاية الصحية، ولاسيما للأطفال.
وبازدياد وطأة الحرب العالمية الثانية على مناطق وادي حضرموت، وانتشار المجاعة قامت بريطانيا بتقديم المساعدات للأهالي، حيث لم تكن حضرموت جاهزة لذلك الحدث الطارئ والعصيب، وبلجوء كثير من المتضررين للانتقال إلى مدن ساحل حضرموت، قامت بريطانيا بجهود إغاثية للتخفيف من معاناة الأهالي عبر منظمة الصليب الأحمر البريطاني، وقد تألفت لجنة الإغاثة في المكلا برئاسة سكرتير الدولة القعيطية الأستاذ مسلم بن عوض بلعلا، حيث وصفتها تلك الدولة بأنها “دليل على روابط الصداقة بين حضرموت وبريطانيا العظمى”.
ثم برزت الحاجة الماسة لتمديد عملية السلام والصلح القبلي مع نهاية المدة المخصصة للهدنة الأولى باقتراب عام 1940، وعززت تلك الحاجة عوامل داخلية وخارجية مترابطة، ومن بينها اندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت بريطانيا شريكًا أساسيًا فيها، وتعرضت خلالها لضربات موجعة، واحتاجت للهدوء في مناطق نفوذها، ومن بينها حضرموت، ثم ألقت تلك الحرب بثقلها على حضرموت نفسها بالغة ذروتها بالمجاعة التي اجتاحت المناطق الريفية بدرجة أساسية، وهي مواقع حركة القبائل المستفيدة من الصلح، وهي التي شاهدت بل لامست مدى أهمية الصلح والسلام، وذاقت طعم الأمان في السنوات الثلاث السالفة.
وقد نشرت صحيفة المنبر خبر إعلان تمديد الصلح ونص بيانه على النحو الآتي:
“قام المستشار المقيم بمجهودات لإقامة صلح عام شامل في طول البلاد وعرضها، وإلى القراء نص المنشور الذي أذاعه باسم حكومتي القطر والحكومة البريطانية.
نداء الصلح:
بما أن حكومة صاحب الجلالة راغبة في استمرار الأمن في حضرموت، ودوام الصلح بين قبائلها، فليكن معلومًا لجميع الناس من سكان حضرموت وغيرهم ممن أمضى على الصلح الذي تم يوم 18 ذي القعدة سنة 1355 هـ، وخصوصًا حملة السلاح منهم، أن حكومتي الدولتين القعيطية والكثيرية في هذه الحالات ورغبة في الأمن مدتا الصلح الذي تم بين قبائل حضرموت وغيره لعشر سنين من الزمن، أي من ذي الحجة عام 1358 إلى نهاية ذي القعدة عام 1368، وحكومة الدولتين القعيطية والكثيرية ستحافظان أشد المحافظة عليه، وستبذلان غاية مجهوداتهما في دوامه بمساعدة الحكومة البريطانية العظمى، حسب ما حرر في عريضة الصلح المحررة في 18 ذي القعدة عام 1358.
عن السلطان صالح بن غالب القعيطي.. الأمير عوض بن صالح القعيطي.. السلطان جعفر بن منصور الكثيري.. إنجرامس المستشار المقيم” (المنبر ع10و11، شوال وذو القعدة 1358، 1939، السنة الأولى).
ثم ارتأت الإدارة البريطانية ضرورة إعادة تنظيم ما يتعلق بالجانب العسكري لحضرموت ممثلة في الدولتين القعيطية والكثيرية، فأتى تأسيس جيش البادية الحضرمي مكونًا من أبناء حضرموت، في أواخر سنة 1939؛ وذلك بهدف أن يساعد على كسر حدة الصراع القبلي، ويخفف من احتكاكه بالدولة، فما عادت القبائل تواجه جيشًا غريبًا في عناصره، بل تواجه جيشًا من أبنائها، وامتد نفوذ هذا الجيش ليعم جميع حضرموت كإقليم يشمل الدولتين القعيطية والكثيرية، مع سلطنتي المهرة وسقطرى شرقًا، وبلاد الواحدي غربًا.
وبما أن هذا المشروع الكبير يتطلب من الحكومة المحلية نفقات عظيمة؛ فقد قررت زيادة الضريبة الجمركية، ورفعها من 8 في المائة إلى 12 ونصف في المائة، بزيادة أكثر من نصف الضريبة السابقة، وبذلك تتمكن من تدعيم نفوذها، ونشر لواء الأمن في كل الأنحاء، كما أن الحكومة البريطانية أسهمت في هذا المشروع، بجلب معدات حربية والتجهيزات العسكرية.
وقد استجابت معظم قبائل حضرموت بجميع عشائرها لنداء الصلح العام، ووقعت على معاهدات السلام، سواء بقناعات من مشايخها وأعيانها، أو بوساطات من مندوبين في الحكومة المحلية، والاستشارة البريطانية، أو من الوجاهات الحضرمية، لكن القليل منها كان يتشكك في جدية تلك الخطوة، وفي مدى قدرة الحكومة على تحقيقها وفرضها على الواقع، وذلك من خلال ما تقدم لهم من خبرات الصراع مع الحكومة المحلية قبل التدخل البريطاني بسلاحه المتطور كسلاح المدفعية، وسلاح الطيران على وجه التحديد.
فلم تجد الحكومة وحليفها البريطاني، وبمباركة من شهداء الصلح من الوجاهات الحضرمية، مناصًا من استعمال القوة العسكرية القاهرة؛ لفرض إدخال تلك القبائل المتمردة على الصلح، من أجل إلزامها بالتوقيع على معاهداته، ولا يتم استعمال تلك القوة لمجرد رفض الخضوع للصلح، بل بشروع القبيلة المتمردة في انتهاكه فعليًا، وارتكاب عمل يعكر الأمن في محيطها، سواء كان يتعلق بأمن الحكومة وجنودها، أو بسلامة أفراد القبائل المجاورة لها.
ونتطرق هنا لمثال من هذه الحوادث التي ضربت فيها مثاوي لقبيلة متمردة بسلاح الطيران البريطاني بحضرموت، وتناوله المؤرخون ولاسيما كتاب التاريخ العسكري في اليمن لسلطان ناجي، وتلك القبيلة المتمردة كانت آل برّجف من عشائر قبيلة العكابرة التي تسكن في مناطق غرب حضرموت، وقريبًا من مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، وقد جرى الهجوم على مثاويها من قبل القوات الحكومية بسبب احتكاكها بقبيلة مجاورة لها تدعى آل الحامدي، وهي أيضًا من القبائل البدوية بغرب حضرموت، ورفض آل برجف الاحتكام لرأي الحكومة فيما شجر بين القبيلتين؛ فكان الهجوم الذي أوردته صحيفة المنبر مع أسبابه أو ملابساته، على النحو الآتي:
“في أثناء الصلح الأول (صلح الثلاثة السنين الذي أقامه المستر إنجرامس)، حدث أن اعتدت قبيلة الحامديين على قبيلة آل بالرجف العكابرة، وقتلت فردين منهم، فاشتكى آل بالرجف على هذا الاعتداء وعدوه خرقًا للصلح، ولكن الحامديين قالوا إن وقت حدوث الحادث لم يكن أمر الصلح قد بلغهم، وعلى هذا رأى سعادة المستشار أن يحكم لآل بالرجف بالدية وحبس بعض الحامديين تأديبًا لهم، ولكن رفض آل بالرجف قبول هذا الحكم الذي عدوه مجحفًا بهم، قائلين إنهم لا يستطيعون قبول المال بدلاً بأولادهم، وذهبوا غير راضين، وانقضى أجل الصلح الأول، وأعلن الصلح الأخير (صلح العشر السنوات)، إلا أن آل بالرجف لم يقبلوه، فتركوا وشأنهم، وعقيب ذلك أطلقت الحكومة سراح من سجنتهم من الحامديين، فثارت ثائرة آل بالرجف، وعادوا للمطالبة بالإنصاف في دعواهم، ولما لم يجدوا من الحكومة جوابًا سوى الحكم الأول غادروا المكلا، وكمن بعضهم لنفرين من الحامديين فقتلوهما عند خروجهما من روكب .
وهنا تطورت المسألة، ورأت الحكومة وجوب تأديبهم، فجهزت حملة سار على رأسها سعادة المستشار المستر إنجرامس، يصحبه سكرتير الجيش المقدم أحمد بن ناصر البطاطي، وتولى قيادتها الميجر لال خان، وفي صباح يوم السبت 9 مارس حملت الجنود على حصون بعض آل بالرجف في نعيمة، ونُصب مدفع ألقيت منه القنابل عليها، وكنتيجة لوجود البدو بين جدران الحصون والجنود أمامهم في مستوى لا يحجبهم شيء ما منهم قتل جنديان، وجرح خمسة، بينهم ضابط، واستولى الجنود على حصنين وهاجم الثالث، وفي هذه الأثناء نادى البدو أن لا قصد لهم في القتال الذي أجبروا على خوض غماره، وتدخل أحد المشايخ ذوي الوجاهة، وعقدت هدنة ليومين خلالها تجري المفاوضات بالسلم للحكومة والخضوع، وأقيمت حامية من 50 من الجنود معسكرة في الحصون التي سقطت، وعليها الميجر لال خان، وعادت الحملة أدراجها للمكلا” (المنبر ع1، 1359ه، السنة الثانية).
كانت تلك الهجمات، ولاسيما غارات الطيران، تثير نقمة القبائل؛ لما تسببه من رعب وأضرار في مثاوي القبيلة، وكانت بعض تلك القبائل تحاول مقاومتها، والتصدي لها عبر الرمي المباشر على الطائرات المهاجمة، وحدث مرة أن هوت طائرة منها على أرض إحدى القبائل؛ فسارع أفرادها إلى الفتك براكبيها من الطيارين البريطانيين الذين سلموا من السقوط، ولم يسلموا من قبضة وغضبة رجال القبيلة المتضررة؛ فلم يتركوهم إلا جثثًا هامدة، ودمروا الطائرة وحولوها إلى حطام، وقد نشرت هذا الخبر صحيفة المنبر، وهو كما ورد:
“بينما كانت إحدى الطائرات البريطانية تقوم بإلقاء القنابل على قبيلة آل العظم المتمردة إذ اختل توازنها، وكان فيها ثلاثة السائق وضابطان، فأعطت إشارة النجدة، وتمكنت من النزول بدون صعوبة غربي حورة ولكن، وما أشد آلام لكن، لمحها آل العظم وهي تهوي، فأسرعوا إليها، وأطلقوا الرصاص على راكبيها، وأجهزوا عليهم بالخناجر (الجنابي)، وهشموا الطائرة، وجاءت النجدة بعد ذلك، ولكنها بعد فوات الوقت، فنقلت المقتولين الثلاثة إلى عدن” (المنبر ع10و11).
وكل ذلك يدل على أن تجربة السلام في حضرموت، بشقيها السياسي والقبلي، تلبستها نجاحات، وصادفتها مشقات، لكن الخط البياني على ما به من تعرجات كان يتجه صوب نجاح التجربة التي نالت مباركة المجتمع الحضرمي التواق لها، والمتلهف إليها، بطبيعته، وبمقتضيات زمنها، وكانت محاولات رفض ذلك السلام أو الصلح محدودة التأثير، ولم تشكل تهديدًا حقيقيًا على العملية برمتها، وأكثرها أتى بسبب طموحات سياسية، أو تنافس قبلي، تجاوزتهما الأحداث، ولم يكن بسبب رغبة عن السلام، أو محبة للفوضى المطلقة، ولقد غرست تجربة السلام وما واكبها من جهود نهضوية للمجتمع ثقافة وإدارة شعورًا بمستقبل زاهر ينتظر حضرموت.
الوضع القائم بحضرموت والحاجة لمكونات تتبنى قضاياه:
على الرغم من أن حضرموت لم تشهد الاقتتال المستمر مثل المحافظات اليمنية الأخرى، إلا أنها شعر سكانها بآثار الصراع ووطأته على حياتهم المعيشية، فقد أدت القيود المفروضة على الواردات، وأزمة العملة إلى إضعاف القدرة الشرائية للسكان من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية، ومع أن التحالف العربي يسيطر على أطراف عسكرية وأمنية فاعلة في مناطق مختلفة من المحافظة، إلا أنه لم يعمل على تحسين الخدمات العامة الأساسية إلا في إطار المبادرات المحدودة الأثر.
ومع ما أدى إليه الصراع من تقويض قدرة الحكومة المركزية على الإدارة بفعالية، تكون شعور بأن الافتقار إلى السيطرة القوية للحكومة المركزية على حضرموت يوفر لها فرصة تشكيل هيكلها السياسي الجديد بسلطات محلية مدعومة من منظمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية، إلا أن الحكومة المركزية لا تزال تحتفظ بالسلطة القانونية على عدد من جوانب التنمية في حضرموت: من مثل الموافقة أو الرفض لميزانيات حضرموت، والتحكم في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الخاصة بها، والاستحواذ على الإيرادات من مواردها، وقضايا أخرى، ومن ثم فهي تحرص على تعيين أشخاص ضعيفي التأهيل في المناصب القيادية للسلطة المحلية بالمحافظة، مع محدودية أو غياب الشفافية في كيفية اختيارهم أو كيفية توزيع الموارد، وقد عزز هذا الأمر الشعور لدى الحضارم في الحصول أن نهضة محافظتهم المعيشية والتنموية لن تتم إلا بانتزاع أكبر قدر من الاستقلالية في الحياة السياسية، وعلى أساسه تشكلت بحضرموت عدد من المكونات ذات طابع سياسي أو حقوقي.
المكونات بحضرموت:
برزت بحضرموت عدة مكونات سياسية وحقوقية في فترات زمنية متقاربة، وجميعها تتبنى المطالبة بحقوق حضرموت، فبعضها اتجه نحو المطالب الحقوقية والخدمية، وبعضها الآخر تبنى المطالب السياسية، والقضايا المتعلقة بمستقبل حضرموت، ونذكر هنا أهم تلك المكونات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ونستعرض بإيجاز أبرز أفكارها ورؤاها عن واقع حضرموت ومستقبلها.
العصبة الحضرمية: هي حركة حقوقية تشكلت في مرحلة مبكرة بمحافظة حضرموت، وأعلنت عن تكونها الرسمي من عدة منظمات وتكتلات حضرمية في مايو عام 2012م، برئاسة الدكتور عبد الله سعيد باحاج، وهي تدعو بشكل صريح إلى حق سكان حضرموت في تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة بعيدًا عن شطري اليمن شماله وجنوبه، وعملت العصبة على التعريف بما تصفه بالقضية الحضرمية، وسمح لها بعرض مطالب حضرموت أثناء انعقاد مؤتمر الحوار الوطني بصنعاء، وقدّمت رؤية سياسية شاملة حول ما أسمته “حقوق الشعب الحضرمي المشروعة بموجب القوانين الدولية وعلى رأسها حقه في تقرير مصيره واستعادة دولته المستقلة”.
قبائل حضرموت والهبة الشعبية وتكوين مؤتمر حضرموت الجامع: في ديسمبر 2013 أعلن تحالف كان قد عقد بين بعض قبائل حضرموت، انطلاق “الهبة الشعبية” عقب مقتل الشيخ سعد بن حبريش، زعيم قبيلة الحموم كبرى قبائل ذلك الحلف، برصاص جنود ينتمون لخارج المحافظة عند نقطة أمنية، وتبنت الهبة مطالب سياسية غير قضية قتل ابن حبريش، وأبرزها تسليم النقاط الأمنية لأفراد من قبائل حضرموت، وتمكين أبنائها من إدارة مناطقهم وإسناد مهام حفظ الأمن وحماية الشركات الأجنبية لأبناء المحافظة.
ولقيت الهبة التي وصفت بالشعبية التأييد والمساندة من قوى ومكونات وشخصيات حضرمية من مختلف القوى السياسية، وظل حلف قبائل حضرموت يتصدر المشهد سياسياً واجتماعياً وإعلامياً بالبيانات والمواقف التي كان يعلنها بين فترة وأخرى، ومنذ انطلاق هذه الهبة تصاعدت المطالب الحقوقية والسياسية لأبناء حضرموت، وانبثق عن حلف قبائل حضرموت مكون سياسي باسم مؤتمر حضرموت الجامع تشكل في إبريل 2017، وصار هذا المكون على رأس القوى والمكونات الحضرمية التي تتبنى مطالب حضرموت وعلى وفاق مع السلطة المحلية في المحافظة؛ لأن بعض قياداته مشاركون فيها، ولاسيما رئيسه الشيخ/ عمرو بن حبريش الذي يشغل منصب وكيل أول لمحافظة حضرموت.
ثم انبثق عن حلف قبائل حضرموت مكون آخر في نطاق الوادي حمل اسم (مرجعية قبائل وادي حضرموت)، وانشق عن مؤتمر الجامع مكون آخر بعنوان (كتلة حلف وجامع حضرموت من أجل حضرموت والجنوب)، معلنا أن الهدف الأساسي لتشكيل الكتلة هو توحيد الرأي والكلمة بين أعضاء الهيئة العليا المنضوين تحت الكتلة لتشكيل قوة ضاغطة للعودة إلى الأسس والنظام المبني عليه مؤتمر حضرموت الجامع.
مجلس حضرموت الوطني: في 20 يونيو عام 2023 تم الإعلان عن تشكيل مكون جديد باسم (مجلس حضرموت الوطني)، أتى بعد عقد مشاورات في الرياض برعاية سعودية، شارك فيها قيادات ورموز سياسية واجتماعية حضرمية، وبدأ الإعلان عن المجلس بطموح كبير حيث وُصف في بيان إشهاره بأنه “الحامل السياسي لتطلعات المجتمع الحضرمي”، وأصدر “الوثيقة السياسية والحقوقية الحضرمية”، اشتملت على “بنود رئيسة تلبي تطلعات أبناء حضرموت وحقهم في إدارة شؤونهم السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية، بهدف تخفيف المعاناة الإنسانية، وتنمية حضرموت لتكون نموذجًا وبداية استعادة السلام والاستقرار في الوطن”. كما نصت الوثيقة على “حق الشعب في حضرموت عبر مكوناته المختلفة بالمشاركة العادلة في صناعة القرار السيادي، والتمثيل في الغرف البرلمانية، والهيئات الحكومية والاستشارية والتفاوضية، بما يضمن حماية المصالح الحيوية لأبناء حضرموت بشكل مستقل”.
ويأتي تشكيل هذا المجلس بدعم سعودي واضح، فقيادة المملكة هي من وجهت الدعوة للشخصيات الحضرمية البارزة للمشاركة في مشاوراته التي جاءت متوافقة مع رغبة المملكة في تحقيق أجواء آمنة في حضرموت وتجنيبها الانزلاق نحو الصراعات التي تعصف بالمحافظات اليمنية الأخرى، لما تمثله حضرموت من أهمية استراتيجية سياسيًا واقتصاديًا لليمن، والجوار الإقليمي كما بيناه سابقًا.
طبيعة العلاقات والتحالفات بين هذه المكونات وأثرها على الحوار:
تفتقر القوى السياسية في حضرموت للوحدة بفعل عاملين أساسيين، أولهما التنافس بين المكونات على تمثيل صوت حضرموت أو موضع الصدارة في قيادة العمل السياسي الحضرمي، وثانيهما تأثرها بمشاريع مختلفة أو تجاذبات خارج حضرموت، من قوى سياسية يمنية، أو خارج اليمن من قوى إقليمية.
على المستوى الحضرمي:
يرى مؤتمر حضرموت الجامع بأنه أهم المكونات السياسية والاجتماعية في محافظة حضرموت، وأنه يمثل الإجماع الحضرمي داخل الوطن وفي المهجر، ومن ثم يعلن أنه لن يقبل بأي تمثيل لمحافظة حضرموت لمكون غيره سواء من داخل حضرموت أو من خارجها والتعاطي مع وضعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في الوقت الذي أعلن فيها مكون مجلس حضرموت الوطني أنه “الحامل السياسي لتطلعات المجتمع الحضرمي”، وحاول أن يلحق به مؤتمر الجامع عبر استقطاب وضم بعض قيادته، لكن لم تحظ هذه الخطوة بتأييد مؤتمر الجامع وأعلن رئيسه عمرو بن حبريش عدم قبوله بعضوية الهيئة الرئاسية لمجلس حضرموت.
ومن جانب آخر تعرض مؤتمر الجامع للانشقاق من بعض قيادته وأعضائه، وقد عللت انشقاقها بوجود تصدعات في العمل المؤسسي للجامع، حيث إن انشقاقهم جاء بعد أن أوصدت رئاسة مؤتمر الجامع وأمانته العامة أبوابها بخروجهم عن اللوائح المقرة، وعدم التزامهم بالنظام الأساسي للمؤتمر، والتفرد بالقرارات دون الرجوع لهيئة الرئاسة، مع عدم الالتزام بالاجتماع الدوري للرئاسة، وتعطيل اجتماعات الهيئة العليا للجامع، وتعطيل دوائر أمانته العامة.
على المستوى الجنوبي:
وبالمقابل فإن تلك المكونات تواجه صعوبات وتحديات حقيقية حين تتجه إلى العمل الميداني في الشارع الحضرمي، خاصة في مواجهة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يعتبر نفسه الممثل الحصري لأبناء محافظات الجنوب- بما فيها حضرموت، مع امتلاك عناصره بحضرموت خبرة طويلة في السيطرة على الشارع، وتوجيه مزاجه، منذ نشأة الحراك الذي رفع مطلب الانفصال، وتبناه الانتقالي في خطابه، بينما تصرح بعض مكونات حضرموت بعدم ترحيبها بالتوجه الانفصالي بالصورة التي يتبناها الانتقالي، الذي بدوره لا يرحب بظهور تلك المكونات حتى لا يفقد المزاج الشعبي الذي اكتسبه خلال السنوات الماضية في محافظة حضرموت.
وكان المجلس الانتقالي الذي تأسس بعدن في مايو 2017 قد استوعب في صفوفه عدداً من الشخصيات الحضرمية، وقد حاول من خلال عناصره التأثير في الحراك الحضرمي بهدف احتوائه والدفع به لتبني المطالبة بانفصال جنوب اليمن، بوصفه أولوية سياسية يلحقها النظر في مطالب جميع مناطق الجنوب بما فيها محافظة حضرموت، ونجح خطابه في التأثير على كثير من أبناء حضرموت، وحاول استيعاب المطالب ذات الطابع الحقوقي المعلنة لمكونات حضرموت، إلا أنه أخفق في اختراقها، ما عدا مكون التكتل من أجل حضرموت والجنوب.
تحليل موقف المكونات من عملية حوار اليمن:
يمثل هاجس استعادة دور حضرموت ومكانتها التاريخية، والحفاظ على حقوقها المهضومة لب مطالب جميع مكونات حضرموت، وسنحاول هنا أن نبلور في نقاط موقف المكونات الحضرمية من عملية حوار اليمن على النحو الآتي:
تأكيدها رفض المركزية والتمسك بالاستقلالية والشراكة:
يعتقد الحضارم بضرورة تمتع السلطات المحلية في محافظتهم بمزيد من الاستقلالية في قراراتها، بغض النظر عن النتيجة المحتملة للنزاع، وتطالب حضرموت بتحقيق اللامركزية في السلطة بحيث تستمر إلى ما بعد أي اتفاقات سلام محتملة، والمكونات من هذه الحيثية تكاد تتماثل المطالب المعلنة عنها والمثبتة في أدبياتها، وفي طليعتها أن تكون المحافظة إقليمًا مستقلاً بذاته، يتمتع بشراكة حقيقية، ويتحصل على حقوقه السيادية كاملة، مع أحقية أبنائه في إدارة شؤونهم الإدارية، والأمنية، والعسكرية، وتمكين السلطات المحلية في حضرموت لتقديم الخدمات لأفرادها، حيث إن إشراك ودعم القدرات المحلية أثبت مقدرتها على تحقيق نجاح الإدارة محلياً.
ومن ثم فهي تدعو إلى إعادة توزيع السلطة القانونية بين المستويين المركزي والمحلي، مع تحقيق مزيد من الشفافية والمساءلة في من يملك سلطة صنع القرارات، وكيف يتم اتخاذها، ومن ثم تمكين السلطات المحلية قانونياً باتخاذ قرارات ملزمة في مجموعة واسعة من قضايا الحكم الأساسية، من مثل: إدارة الإيرادات المحصلة من الموارد الطبيعية والضرائب، وإصدار التصاريح، وتنظيم المطارات الموانئ، وحق تعيين أو عزل الموظفين الحكوميين، واقتراح ميزانيات تتناسب مع الحاجات التنموية للمحافظة، وتتسم بالشفافية، وعقد اتفاقيات مباشرة مع أطراف دولية، وسيؤدي كل ما ذكر إذا تحقق إلى امتلاك الحضارم قدرة أكبر على التحكم بموارد محافظتهم من أجل دعم التنمية والأمن المحليين.
التشديد على التمثيل الخاص، ورفض الاستبعاد والاندراج، ووجود الضمانات:
تدعو المكونات الحضرمية إلى ضرورة تمثيل محافظة حضرموت في أي حوار قادم، أو تسوية سياسية محتملة؛ لأجل ضمان لمصالح وتطلعات أبناء المحافظة؛ فهذه المحافظة قد عانت من التهميش والإقصاء خلال الفترة الماضية، ولم يعد مقبولاً استمرار ذلك التهميش، أو تجاوز حضرموت في أي تفاهمات ستنعكس بشكل مباشر على حضرموت وتطلعات أبنائها.
وكان الحضارم قد شعروا بأنهم مستبعدون من عملية السلام في اليمن التي تقودها الأمم المتحدة، من حيث عدم كونهم في الخطوط الأمامية للنزاع، ويأتي هذا بعد تاريخ طويل من التهميش من كيان الدولة المركزي في اليمن، ويعبرون عن ضرورة إشراكهم في محادثات وطنية مستقبلية حول عمليات السلام. وقد حذر مؤتمر حضرموت الجامع، من تداعيات استبعاده من أي ترتيبات تخص القضية الوطنية والقضية الجنوبية بشكل خاص، في رسالة إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي.
ومن هنا تشدد المكونات على أن تكون هناك ضمانات حقيقية ملموسة، لتأسيس مداميك أي صيغة مستقبلية لبناء شراكة وطنية عادلة، ومتوافق عليها، بحيث تحقق الاستدامة في الاستقرار والسلام، وهي تضع هذا المطلب على جميع الأطراف المحاورة، سواء على المستوى الجنوبي أو اليمني العام.
التشديد على تجنب الصراع:
ما تزال حضرموت واحدة من أكثر المحافظات استقراراً في اليمن، فلا توجد انقسامات خطيرة داخل الكيان السياسي للمحافظة، ويساعد على ذلك أن إرادة أبناء حضرموت هي تجنيب محافظتهم حدوث أي صراع سياسي أو عسكري، ويتم تغليب الأدوات السياسية مع أي توتر قد يطرأ.
وتوجد في حضرموت درجة من التوتر والمنافسة بين الجيش اليمني من غير أبنائها، الذي ما زال منتشرًا في مناطق وادي حضرموت، ورجال قبائل حضرمية يشعرون بالاستياء من وجود الجيش اليمني، وسلوك بعض أفراده، فضلا عن قيام الانتقالي بتحريض بعض عناصره بحضرموت على الاحتكاك به.
التواصل والانفتاح:
تبدي المكونات الحضرمية استعدادها المستمر في التواصل بجميع الأطراف والفعاليات المحلية والإقليمية والدولية، وذلك عبر مشاركتها في الحوارات والاجتماعات من أجل مواصلة الجهود والرؤى والمقترحات المنبثقة من تصوراتها، بما يؤدي إلى أن يعيش المجتمع في أمان وسلام دائم، ورفد الجهود المبذولة للوصول إلى تفاهمات بين مختلف الأطراف على الساحة بحيث تفضي إلى السلام العادل، وقد حضرت وشاركت بعض تلك المكونات في حوارات ما زالت تتجدد من حين لآخر.
مقترحات لتعزيز مكانة حضرموت وحضورها في عملية الحوار ودعم السلام:
يكتنف الحوار الحضرمي البيني خاصة والجنوبي عامة كثير من الإشكالات، حيث يعكس المشهد السياسي في الجنوب تعددًا واسعًا غير منتظم في المواقف المختلفة في اتجاهاتها، وفي مقدمة تلك الإشكالات موقع حضرموت من الجنوب، والموقف من دعوة الانفصال، ويترتب عليه تقييم وجود الوحدات العسكرية بحضرموت من غير أبنائها.
العمل المؤسسي في المكونات: فالعمل المؤسسي بين هيئاتها مع الشفافية في التعامل يؤدي إلى قوة تماسكها ويغرس الثقة والولاء بين الأعضاء المنضوين، كما يعزز من شرعيتها في المجتمع الحضرمي، ومن ثم يقوي موقفها في مخاطبة الجهات الأخرى لطرح المطالب التي تتبناها.
انفتاحها على بعضها: ينبغي أن تكون المكونات الحضرمية على انفتاح فيما بينها عبر التواصل الدائم بين مؤسساتها، وتغليب ما هو مشترك بينها من حيث المطالب فتكون هي رائدتها في العمل السياسي، وبحيث تنأى بتنافسها التنظيمي عن الإضرار بالصوت الحضرمي، بل تعمل على صياغة صوت موحد لحضرموت يشتمل على رؤية واضحة للمطالب الأساسية والمصيرية للمحافظة.
الالتحام بالمجتمع: وذلك عبر إشراك جميع فئاته من منظمات مجتمعية، ونخب ثقافية، ومهنية، وتجارية، وعدم تهميش أو إقصاء أي من الشرائح الأخرى، وأن تكون على تواصل وعلاقة جيدة مع الفئات الرسمية والكتل النيابية، والشوروية، والقضائي، وكل ذلك يخدمها في تحقيق الضغط عبرهم على الجهات الرسمية المركزية والقوى المؤثرة الأخرى في حلحلة كثير من المؤرقات المجتمعية، ولاسيما في مجال الخدمات العامة، خاصة أن المجتمع المدني الحضرمي قد قدم بعض التجارب الإيجابية في الضغط الناجح على صانعي القرار، وهذا بدوره يرفع من رصيدها الشعبي ومن ثم يقوي حضورها على المستوى العام.
المحافظة على المكتسبات الرسمية: فينبغي أن تبدي المكونات الحضرمية حرصها على استمرار حيوية المؤسسات المدنية القائمة، وتعزيز دورها في القيام بمهامها الرسمية بما يساعد على استقرار المجتمع المدني والحياة العامة بحضرموت، وتقوم بالضغط على الحكومة المركزية عند تعيين المسؤولين في المحافظة، بحيث تمنع تعيين أشخاص ضعيفي التأهيل في المناصب القيادية في السلطة المحلية، وتسعى في الوقت إلى توحيد الجانب العسكري والضغط بهذا الشأن، وتسليم المهام العسكرية لأبناء المحافظة، مع تمكينها من السلاح المناسب الذي يكفل حماية المحافظة من حدوث الانشقاقات، أو ظهور الجماعات المسلحة غير القانونية.
التنسيق مع الأطراف الجنوبية: ينبغي أن تحرص المكونات الحضرمية على خلق علاقات حسنة مع مختلف الأطراف الجنوبية، وإقامة جسور التواصل معها، بناء على تشابك المصالح وتماثل كثير من القضايا بين الجانبين، فضلا عن التداخل المجتمعي، والمشترك التاريخي بينهما.
هذا ما تسنى لنا طرحه في هذه الورقة الوجيزة من قضايا تتعلق بالهم الحضرمي وكيفية تعاطي المكونات الحضرمية معه، بما يطور تجربتها السياسية والتنظيمية، ويمكنها من المشاركة المقنعة للشركاء الآخرين في إدارة عملية الحوار ودعم جهود السلام في حضرموت خاصة واليمن عامة.