قراءة في الأدب النَّسْوي الحضرمي – خديجة بنت علي الحبشي أنموذجاً

ورقة بحثية ضمن الأمسية الأدبية : ( قراءة في التراث والأدب الحضرمي  بين الأصالة والتحديث )

ستقتفي هذه القراءة مسارين متتالين؛ الأول سيعطي لمحة عامة عن الأدب النسوي، والآخر سيكون قراءةً مقتضبة على ديوان السيدة خديجة بنت علي الحبشي ـ عليهما رحمة الله ـ كأنموذج للشعر النسوي الحضرمي؛ وقد خصَّته قراءتنا لتوفر الديوان أولًا، ولثرائه وتشكُّل أنماط شعريته ثانيًا وإن كان شعبيًّا.

في البدء لا بد من الوقوف على مصطلح (الأدب النِّسوي) أو (الكتابة النِّسوية)، أو (الأدب النسائي)، فهو وإن كان مصطلحًا غربيًّا، شأنه في ذلك شأن مناهج النقد الأدبي الوافدة، إلا إنَّ هذا المصطلح قد أحدث تباينًا في الرؤى من حيث القبول والرفض من لدن النقد الأدبي؛ فمَن رفضه كان يميل إلى سطحية التوصيف فيه التي تقسم الأدب إلى (نسائي ورجالي)، والوقوف عند هذا الحد حسب، ومن هذا التيار مَن كان منتميًا إلى المجتمع النسوي نفسه كـ(أحلام مستغانمي)، ومن قَبِلَه ولا سيما من المجتمع النسائي يرى فيه شيئًا من رد الاعتبار للمرأة الأديبة المهمشة ذكوريًّا، فافترقوا في توصيفه مذاهب شتى يمكن إيجازها ـ لضيق المقام ـ في أمرين؛ الأدب النسوي هو: أولًا: الأدب الذي تنتجه المرأة، شعرًا كان أم سردًا. وثانيًا: هو الأدب الذي يعالج قضايا المرأة وإن كان كاتبه رجلًا؛ يمكن أن نطلق عليه (أدبًا نِسْويًّا).

لقد سخِر بعض كبار النقاد الغربيين الذكور من هذا المصطلح – كامتدادٍ لقوامة الأدب الذكوري على الأنثوي – فأطلقوا عليه مصطلحاتٍ مخاتلة؛ ففي السويد أطلق على أدب الكاتبات الإناث (الملائكة والسكاكين)، فتلقَّى الذكور العرب من الكرام الناقدين هذا المنحى قبولًا حسنًا، فأطلق أنيس منصور على ما كتبته المرأة (أدب الأظافر الطويلة)، وأسماه إحسان عبدالقدوس (أدب الروج والمانكير)، وهذه التسميات تنحو بالأدب منحى قرائيًّا شكليًّا وصوتيًّا تعتني فيه المرأة بالتأثير الشكلي الصوتي والتخييلي في بناء الجملة، والعبارة على حساب العمق الموضوعي، وقد تكون الأسماء دوالًا على مدلولات حقيقية لهذا التوصيف، لكنها مصحوبة بالسخرية فيه.

لقد شكلت آلية انحسار النتاجات الأدبية النسوية؛ من شعر أو نثر ما يشبه الظاهرة العامة؛ قبل القرن العشرين، ولم يقتصر الأمر على الأدب العربي حسب، بل إننا لا نكون مبالغين إذا ما قلنا حتى على مستوى العالم والثقافات المتقدمة، فقد غابت أو غُيبت النصوص الأدبية النسوية، وعُدَّت من التابوهات المحرمة، حتى في أوروبا نفسها؛ الأمر الذي أجبر كثيرًا من الشاعرات والروائيات أن يكتبن من خلف قناع الاسم المستعار. أما في الوطن العربي فالأمر لا يعدو كونه امتدادًا لرواسب النظرة الدونية للمرأة مقارنة بالرجل (الفحل) بتعبير الغذامي، من وجهة نظر الرجل نفسه، وربما من وجهة نظر المرأة نفسها أحيانًا. الأمر الذي أدَّى إلى تغييب معظم ما كتبته النساء العربيات في معظم مصادر الأدب العربي؛ كما يرى الدكتور مسعود عمشوش، فلم تسجل لنا كتب تاريخ الشعر العربي، ونقده إلا ما نظمته الخنساء قبل الإسلام، وليلى الأخيلية في العصر الأموي، ورابعة العدوية في العصر العباسي، وولادة بنت المستكفي في العصر الأندلسي، وعائشة التيمورية في العصر الحديث(1). يمكن القول: إن البداية الحقيقية التي رَفع فيها الشعر النسوي رايته عربيًّا كان مع الشاعرة العراقية نازك الملائكة؛ مع بزوغ حركة الشعر العربي الحديث التي استطاعت أن تكسر طوق الفحولة الشعرية العربية، نهجًا ونوعًا، ومن تبعها بعد ذلك مثل: فدوى طوقان، ومي زيادة، وغيرهن من الشاعرات الحداثيات.

أما إذا عدنا إلى الأدب النسوي الحضرمي، فلم تكن حضرموت في معزل عن الأدب العربي العام، ولكن الأمر كان فيها أشد تغييبًا لطبيعة البيئة الحضرمية المحافظة، على الرغم من حرصها على تدوين عاداتها وأدبياتها الشعبية من أمثال، ومَحازٍ، وقصائد رجالية، لم يكن للمرأة الأديبة حظ من ذلك الحفظ والرواية والتدوين إلَّا ما ندر. وهو أمر ليس بغريب على هذه المنطقة الجغرافية التي قدَّست العادات والسوارح، والتقاليد حتى أكثر من تقديس بعض التشريع المنزَّل.

لم يكن الأمر نابعًا عن غير هدى أو جهل، من المؤرخين بالشاعرات الحضرميات، بل هو الترصُّد حتى من كبار الكرام الكاتبين الذين أرَّخوا لحضرموت؛ كالمؤرخ الأديب عبدالقادر الصبَّان صاحب كتاب (الحركة الأدبية في حضرموت/ 1972م)، لم يشر – كما يرى الدكتور عمشوش – في كتابه إلى أي شاعرة حضرمية(2)، على الرغم من قرب بعضهن منه؛ كشقيقتيه (شفاء وفاطمة محمد الصبان)؛ فقد كانتا تقولان الشعر، وجدته لأبيه (نور عبد القادر سالم حسان) (نور قدرية)؛ التي توفيت في سيئون سنة 1961م.

يمكننا تبرير ذلك بأن النتاجات الشعرية لمن ذُكرن ربما لم تكن في كَمِّها شافعة لدخولها حركة الصبان الأدبية، أو ربما كانت تحت سقف معيارية الصبان الفنية والتأليفية.

أما المستشرق البريطاني روبيرت سيرجانت؛ الذي ألَّف كتابًا في الأدب الشعبي في حضرموت، أكد أن الذكور هم من ينظمون أشعار الفرائحيات الخاصة حتى بالنساء، ولم يحو كتابه شاعرة حضرمية، على الرغم من وجود شاعرات حضرميات يقلن الشعر الغنائي الشعبي الطربي، بل ويوثقن صلته بالغناء والرقص والفرح؛ من أمثال: “خديجة علي، ونور قدرية، وعلوية عبدالله، وشفاء الصبَّان، وفطوم بن طالب”(3).

أمَّا الباحثة والشاعرة المغربية فاطمة بو هراكة تبرِّر تغييب، أو إقصاء الأدب النسوي العربي قائلة: “إن صفة الريادة في طباعة أول ديوان نسائي داخل أي قطر من أقطارنا العربية ليس بالأمر الهيِّن، بل يتطلب إصرارًا وجهدًا كبيرين؛ لكي يخرج إلى حيز الوجود … إن سياسة التطرف والمغالاة في المجتمع، وأسلوب الخنق العائلي المتمثلَين في إسكات صوت المرأة الشعري وإلجامه، ووضع القيود والحواجز أمام إبداعها، جعل هذه الأقلام النسائية مكبَّلة، وعاجزة عن طباعة ما تفيض به مشاعرها؛ لهذا لم نجد سوى قلة من الشاعرات اللواتي ظفرن بطبع دواوينهن بعد أن تمكنَّ من مواجهة هذه الضغوطات، والقفز على الحواجز المجتمعية المقدسة”(4).

لعلَّ في هذا الاقتباس ما يروي سؤال المتسائل عن سبب في إخفاء الأدب النسوي العربي، وتكميم أقلامه.

على الرغم من كل تلك العُتمة التي ساورت الأدب النسوي العربي والحضرمي على وجه الخصوص، فقد سطعت أسماء نسوية حضرمية في مجال الشعر بطريقته التقليدية الشعبية، وصولًا إلى طباعة الدواوين الشعرية الفصيحة والعامية، وإن كانت بعض هذه الأسماء النسوية كانت تمثل الأدب الحضرمي المُهاجر الذي وَجد في المهجر بيئة خصبة تروي نباته، وتشكل حدائقه وتمد من أفنان بهجته إن شعرًا وإن نثرًا؛ كـ(ميمونة أبوبكر الحامد)؛ كأول شاعرة يمنية تصدر ديوانًا مطبوعًا؛ هو ديوانها الذي يحمل عنوان (خيوط في الشفق)، عام 1978م، فألحقت به أربعة دواوين شعرية أخرى؛ هي: (قيثارة صامتة) عام 1980م، و(في طيات الانفجار) عام 1982م، و(الهجير) 1984م، و(رمضاء الأيام) عام 2005م. ولها ديوان مخطوط اسمه (أحضان المواهب)، توفيت بالقاهرة عام 2010م.

والشاعرة الحضرمية الدكتورة عفاف صالح الهجري؛ رئيسة منتدى المرأة الجنوبية بالمملكة المتحدة، حيث تشكلت شاعريتها في التطواف بالمهجر العربي، والأوروبي مع زوجها السفير عوض راشد، وقد انتقلت إلى باريها في لندن سنة 2020م.

أما على نطاق السرد فتحضر في الذاكرة الأدبية الساردة هدى العطاس التي بدت ملامح البيئة الأوروبية على جرأة قلمها السارد، في مواكبة الأدب الحداثي؛ ولدت في حضرموت، وانمازت بقصصها القصيرة التي حازت على إثرها جائزتي العفيف في عام 1997م، وجائزة الشارقة، وتعتبر أفضل قاصة في استطلاع الصحافة اليمنية، وقد نشرت مجموعتها الأولى في عدن عام 1995م، ونشرت أربع مجاميع قصصية بعد ذلك.

كذلك إلى المكلا تشير سبابة الأدب والسرد إلى القاصة الساردة سعاد عمر سواد (الطبيبة الأديبة)؛ التي كانت أكثر الأديبات الحضرميات غزارة في النشر على الإطلاق؛ إذ نشرت قرابة تسع روايات ومجموعة شعرية، وهي لازلت على قيد الحياة تعطي، وتبدع في مجالي الطب، والأدب نسأ الله في عمرها.

لم يقع في يدي من تلك الأعمال النسوية سوى ديوان السيدة خديجة بنت الحبشي؛ لذا آثرت أن يكون نموذجًا للوقوف القرائي الذي تسمح به مساحة هذه الأسطر، ولنوعية المحتوى الشعري الشعبي المتشكل في الديوان.

 

قراءة في شعر الشاعرة خديجة بنت علي الحبشي (ت: 1353هـ):

لمعت أسماء تشكلت شاعريتها في بيئة حضرمية صوفية روحانية؛ على مر العصور كالشيخة سلطانة الزبيدية (ت: 847هـ)(5)، والسيدة خديجة بنت علي بن محمد الحبَشي؛ وإن كان شعر الزبيدية فصيحًا إلا أن ما بقي منه نتف قليلة، على عكس شعر السيدة خديجة الحبشية، فقد قفزت شعريتها على قوالب النمط الصوفي الرتيبة، إلى فسحة امتداده، ودلالاته البعيدة التي تزدوج فيها قراءة شعر العشق على مسارين عشق صوفي مرموز، وعشق عاطفي (ذاتي) من الذي يتفلت به القلب نحو المعشوق الغائب؛ فلا تكاد تفصل بين المستويين الشعريين في شعرها. كما هي الحال في أشعار المحضار، وحداد التي انطلقت من البيئة الشعرية ذاتها، فانماز شعر السيدة خديجة بطربيته وغنائيته، فهو شعر راقص مغنًّى في المقام الأول في أثره الصوتي والإيقاعي؛ فاجتمعت فيه ثلاثية (البكاء والسهر والغناء)؛ وبدا كلُّ ضلع من أضلاع هذا المثلث يتشكل في صورٍ بديعة تكمل تمام اللوحة الشعرية المرتضاة.

التجريد بين المنحى الصوفي والقناع الشعري:

على الرغم من تفلُّت شعر السيدة خديجة الحبشية من القيود التي كبلت الشعر النسوي الحضرمي، إلا أنه لا يغيب عن وعيك كثافة ضمير الغائب المذكَّر الذي تتمترس خلفه أنا الشعر؛ وهو ما يسميه النقد أسلوب (التجريد)، الأمر الذي يقود قراءتنا إلى التساؤل، هل التجريد عندها كان امتدادًا لبعض السطوة الذكورية التي ما زالت تلقي بأثرها على  الشعر النسوي الحضرمي، أم أنَّ هذا الإجراء هو امتداد لنمط الخطاب الصوفي الذي يقوم على تمجيد ضمير الغائب المفرد: ( هو هو حي حي …)، وبين هذا وذاك يظل الاحتمالان قائمين، وقد يجتمعان؛ فمن التجريد بأسلوب المذكر المفرد الغائب قولها:

والمحبة قال شاعر عذبت حال اليتيم

ريت كل من ضاق قلبه       لي تذكر من يحبه

في وسط غبه يهيم(6).

تُجرّد الشاعرة من ذاتها شاعرًا (ذكرًا) يقول الشعر: (والمحبة قال شاعر)، ويستمر سياق الشعر بأسلوب التجريد: كل من ضاق/ قلبه/ حال اليتيم. إلى آخر النص.

ومنه أيضًا قولها:

والهوى صعب ما يضبطه خط القلام       من بلي فيه ما يقدر يرد السلام

له سواقي وطيّه يندر الماء ذنوب

من بلي في المحبة ما تهنَّى السكون         لي دجى الليل ما يقدر يكس العيون

وان سمع صوت حادي حس قلبه دبوب(7).

(من/ بلي/ما يقدر/ يرد السلام/ من بلي/ ما تهنَّى/ ما يقدر/ …) تلحظ أن ضمير الغائب هو الفاعل في هذه الشعرية؛ لأنَّ دلالة العشق هنا مفتوحة، وحين تنغلق بطوق المنحى العرفاني الصوفي يحضر ضمير المتكلم المفرد والمجموع في خصوصية نمطية لديوان السيدة خديجة بنت علي كقولها:

حرّك الصوت في قلبي شجون     بات سهران ما جانا سكون

وارد القلب خائف لا يميل

حتى قال:

روّح ومضواك إلى حوطة عمر        عند منية فؤادي والثمر

خَلْق لي بُعدهم عندي ثقيل(8).

يقصد الشعر حوطة عمر العطاس بـ(حريضة)؛ مجليًا منحى العشق الصوفي؛ فانفك طوق الغائب ليمْثل ضمير الحاضر، في قوله: (قلبي/ ما جانا/ فؤادي/ لي/ عندي …)، حين تبدَّت وجهة العشق إلى المنحى الصوفي.

وهو المُنجلي في قولها من الشعر الصوفي المحض، في موضع آخر:

وجينا يا حبايب نبغى كرامة      عسى كلين يبلغ مرامه(9).

بضمير التكلم تماشيًا مع منهجية الشعرية لديها بالتكلُّم في حضرة المنحى الصوفي لمسار الشعر، والتجريد في التفلت لغويًّا على نطاق شعرية التصوف، فيتحول مسار الشعر في هذا الأخير إلى نمط التجارب الفنية الذاتية (الرومانتيكية) العامة كما عند شعراء الأغنية الحضرمية، والتي بسقت أغصانها هي الأخرى في التربة الشعرية الحضرمية ذات البُعد الصوفي.

ثالوث شعرية السيدة خديجة: (السَّهر، والبكاء، والغناء):

إن هذا الثالوث: (السهر، والبكاء، والغناء) يشكل ملامح الأغنية الحضرمية عامة، وشعر السيدة خديجة يمتح من هذه المدرسة الفنية ذاتها التي بدأت بداياتٍ صوفية الوجهة الشعرية، ثم تحرَّرت لتعبِّر عن التجارب العاطفية الذاتية الخاصة، وإن في قوالب تمضي وفق المستويات الشعرية الفنية، بكل تجليات فنيتها البلاغية والرمزية.

حين تقرأ قولها:

يا فتى لو كنت داري       يوم دمع العين جاري     فوق خدّي مثل الامزان

لو معك طب ينفع        كان ما بيتت تسجع        بالمغاني هي والالحان

يومنا حب المغاني      ذا متى يصفى زماني        حقَّطوا قلبي بالاسهان

بات طول الليل ساهر      لو خرج قالوا مسافر   واتبع أهل الشرح والدان(10).

يتجسد في هذه المقاطع ثالوث الشعرية عند الشاعرة، الذي سبق ذكره (السهر، والبكاء، والغناء) وهي مظاهر صوفية المنشأ شعريًّا؛ فبرز السهر في: (بات طول الليل ساهر)، والبكاء في: (يوم دمع العين جاري    فوق خدّي مثل الامزان)، وفي الغناء والطرب: (واتبع أهل الشرح والدان)، فامتدت انثيالات التصوير من هذه الأضلاع الثلاثة مادّةً ومشكِّلة مناكب اللوحة إلى أنماطٍ شتَّى.

وإن طغى المنحى العامي أو الشعبي على نمط شعر السيدة خديجة إلَّا إنه يعدُّ أثرى التجارب الشعرية للأدب الحضرمي النسوي الذي وقفنا عليه؛ لما انماز به من حركةِ الشعرية وتجددها وتنوعها وتفلتها عن صبغة النمط العرفاني المحض، وبلوغها منازل الشعرية الفنية ذات التجارب الخاصة، وإن تبطَّنت هذه الفنية بتلك الأبعاد الصوفية التي انطلقت، وتشكلت الشعرية في أحضانها في المقام الأول.

 

أولًا: تشكيل تصوير السهر:

ومنه قول السيدة خديجة:

قال ساهر طوال الليالي   المحبة تُبى الا قلب سالي    كل حبان توخذه نشبه

يا مسيكين من بات ساهر    دمع عينه على الخد ماطر

 يوم صاحبه يبخل بطِبّه(11).

تولدت في أحضان سياق السهر تصويراتٌ مثل: دمع عينه على الخد ماطر/ يبخل بطبّه. تجلت الدموع مطرًا، والخد وجه السماء الحزين، وبدا اللقاء (طبًّا)، في سياقات مجازية تصويرية حية تحيا، وحياة المشهد التصويري العام. وقد تقدم تصوير اللقاء بالطب حين قالت في النص السابق: (لو معك طب ينفع)؛ فبدا الطبُّ دالًّا على مدلول الوصال في شعر السيدة خديجة.

ثانيًا: تشكيل تصوير البكاء:

   حوى هذا البُعد تصويرات تسيل مزنًا ومطرًا في شعر السيدة خديجة، وقد تقدّم معنا شيء من تصوير الدموع بالماطر، والخد بوجه السماء الحزين الباكي، ومن هذا النمط قول شاعرتنا:

يومنا قد كنتْ سالي       كنَّنَا قَل احتيالي     دمع عيني دال ميم(12).

تلحظ أسلوب تجريد المذكر المفرد في سياق هذا البيت: (يومنا/كنت سالي/ قل احتيالي)، فلا ثمَّ وجهة عرفانية في هذا النسق الشعري؛ الأمر الذي يُحيل على إقرارٍ مبطَّنٍ من الشاعرات أنفسهن بأحقية تفحيل الشعر حتى يكون على مستوى رفيع في التعبير والتصوير معًا. لكنَّ الأمر الذي ندندن حوله هنا هو صورة الدموع المتناسلة حين قالت: دمع عيني دال ميم. تكنية عن الدم القاني؛ لشدة احمرار الدموع، وهو انعكاس لبرح الوجد والفراق.

 

ثالثًا – تشكيل تصوير الغناء والطرب:

قديماً قال حسان ابن ثابت:

تغنَّ بالشعرِ إمَّا كنتَ قائلَهُ     إنَّ الغناءَ لهذا الشعرِ مضمارُ(13).

يرسم حسان في هذا البيت منهجية الشعر المعتمدة على التغنِّي والطرب منذ ذلك الحين، وهذه هي حال الشعر الذي كانت العرب تقوله بدافع التغنِّي به والحداء، وهي سمة مطبوعة في الشعر النسوي الحضرمي، وعند شاعرتنا السيدة خديجة كذلك يكون الغناء والطرب دافعًا لنظم شعر الدان، ومعظم الأشعار الحضرمية، تقول السيدة خديجة:

لي قلب يسلا إذا       قد حس حادي بنغماته       على الصوت ناح

وان حس صوت الحما     يم فوق روس الشجر     غردن بالسر باح(14).

وتقول في هذا المنحى أيضًا:

لي قلب لي شاف واحد بالمغاني يشل    معاد تقدر عظامي عا الوقا تستقل

                        يسامر النثر والزهرة ونجم الزبان(15).

ينثال النغم في تصوير صوت الحمايم المغردة على الشجر، وعدم قدرة سكون العظام عن الحركة على الفراش؛ فالنَّغم والانطراب يمثلان الدافع الأساس في السهر وقول الشعر عند شاعرتنا، وقد تكرَّرت هذه التصويرات في نصوص كثيرة من الديوان؛ منها ما تقدَّم من قولها:

يومنا حب المغاني      ذا متى يصفى زماني       حقَّطوا قلبي بالاسهان

إنَّ صورة (حقَّطوا قلبي بالاسهان)، صورة شعبية بلغة حضرمية دارجة في لفظة الفعل (حقّط) أي المضغ بالأسنان بطريقة متأنية وبطيئة الأمر الذي يضمن طحنه، فعَّل التضعيف طاقة حدث الـ(حقط)، فلك أن تتخيل نتيجة هذا الأثر حين يكون القلب هو (المحقَّط)، كان المعجم الشعري الدارج أبلغ في رسم صورة الألم المصاحب للسَّهن والانتظار؛ هذه الصورة حضرت في منحى سياق عشق الغناء وما يحدثه من أثر في الذات الشاعرة.

الخاتمة:

مما تقدَّم يمكن تلخيص النتائج الآتية:

1ـ انشطار الشعر الغنائي الطربي العاطفي (الذاتي)، عن الوجهة التقليدية الأصيلة ذات المسحة الصوفية عند السيدة خديجة، فحضر التجريد في منهجية شعرها؛ إقرارًا بالطاعة لقوامة شاعرية الذكر على الشعر النسوي جودةً، فلم يكن التجريد بدواعي تقفِّي النهج العرفاني، بدليل كثافة حضور ضمير (الأنا) في شعرية التصوف لديها.

2ـ إقرار الشعر النسوي ذاته بأنه شعر لمَّا يرقَ إلى مستوى الشعر الذكوري بعد؛ من خلال إسناد الفاعلية الشعرية لضمير المفرد المذكر في الشعر الحضرمي في مجتلاه الفنِّي.

3ـ أسبقية الشعر النسوي الحضرمي الشعبي فنيًّا على الفصيح.

4ـ تمخضت أصالة الشعر النسوي الحضرمي من رحمٍ صوفية المشرب شعريًّا، أما تحديثه فولَّى وجهته شطر الشعر الغنائي (الذاتي) العاطفي.

5ـ لم يزل نون النسوة الأدبي بعيد المستوى الفني في مجتلاه الأدبي نوعًا وكمًّا عن الأدب الذكوري على مستوى الوطن العربي، ولعلَّ رفض أحلام مستغانمي تسمية (الشعر النسائي) يكون دافعه التخوّف من قيام موازنة محسومة النتائج سلفًا لصالح الفحولة.

توصية:

يوصي بحثنا بإعطاء الأدب النسوي الحضرمي خاصة، واليمني بشكل عام، اهتمامًا من النقد والدراسة والتحليل عن طريق مثل هذه الفعاليات الأدبية، وتوجيه الرسائل والأطروحات الجامعية نحو المطبوع منه.

——————————-

الهوامش:

1ـ الشعر الشعبي النسوي في حضرموت: أ.د. مسعود عمشوش، ط(1)، 2022م، مركز مهارات للتدريب والدراسات والترجمة والنشر، عدن: ص 11.

2ـ ينظر، السابق: 13.

3ـ السابق: 14.

4ـ موقع عدن الغد، 4/ أغسطس/ 2021م.

5ـ الشيخة سلطانة الزُّبيدية، ووهج التصوف بين حضرموت والبلاد العربية: د. أحمد هادي باحارثة، تقديم: د. عبدالحكيم الزبيدي، ط(1)، 1445ه – 2023م، تريم للدراسات والنشر، تريم/ حضرموت: ص 107.

6ـ ديوان السيدة الفاضلة خديجة بنت العلامة الحبيب علي بن محمد الحبشي، جمع وتقديم: علي محمد عبدالرحمن السقاف، جدة: 22.

7ـ السابق: 14.

8ـ السابق: 86.

9ـ السابق: 97.

10ـ السابق: 19.

11ـ السابق: 33.

12ـ السابق: 23.

13ـ البديع في نقد الشعر: أسامة بن منقذ: 1/68.

14ـ ديوان السيدة خديجة: 16.

15ـ السابق: 12.

 

لتحميل الورقة البحثية اضغط هنا