ورقة تحليلية

الباحث : إبراهيم بامطرف

باحث سياسي له العديد من المقالات والتحليلات التي تنشر بثلاث لغات ( التركية – الإنجليزية – العربية ) مع مراكز بحثية عربية وتركية وعالمية

——————————————–

الملخَّص التنفيذي:

تتناول هذه الدراسة الإصلاحات الاقتصاديَّة الأخيرة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنيَّة؛ إذْ يتمُّ تسليط الضوء على التفسير العلمي لهذه الإصلاحات من الناحية الاقتصاديَّة ودلالاتها السياسيَّة. وقد حدثت هذه الإصلاحات في ظلّ تفاقم حالة المضاربة على العملة، وتضخُّم، ومظاهرات عامَّة. شملت هذه الإصلاحات قيودًا على استخدام العملات الأجنبيَّة، وإغلاق شركات الصرافة غير المرخّصة، وتنظيم الواردات، وتعزيز الرقابة على السوق. وقد أسهمت هذه الإجراءات في استقرار صرف الريال اليمني مؤقَّتًا، وخفض أسعار المواد الغذائيَّة. كما تناقش الدراسة أيضًا التحدِّيات أمام هذه الإصلاحات من الناحيتين الاقتصاديَّة والسياسيَّة.

المقدّمة:

كانت الإصلاحات الاقتصاديَّة في المناطق المحرَّرة في الفترة الأخيرة هي الحدث الأبرز، الذي شغل الرأي العام والمواطنين، والذي شغل أيضًا حيِّزًا كبيرًا من اهتمام وسائل الإعلام. ليس فقط لأنَّه مرتبط بشكل رئيس بالحياة اليوميَّة، ولكنَّه أيضًا أعاد إحياء الأمل بإمكانيَّة تحسُّن الاقتصاد والحياة المعيشيَّة في المناطق المحرَّرة.

وقد تزامنت هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة مع تحسُّن في الصرف؛ إذْ ارتفعت قيمة العملة اليمنيَّة إلى 1617 ريال مقابل الدولار الأمريكي في المناطق المحرَّرة، وهو ما يمثل انتعاشًا بنسبة 40% من نحو 2900 قبل عدَّة أسابيع. وهو ما أدَّى بدوره إلى ظهور حملات شعبيَّة كثيرة للمطالبة بخفض الأسعار الرئيسة بما يتناسب مع سعر الصرف وخصوصًا المواد الغذائيَّة والأدوية. وهو الذي لاقى تجاوبًا من قبل السلطات المحلِّيَّة في المكلا، وسيئون، وعدن، وتعز، وغيرها من المناطق الشرعيَّة، التي شرعت في إرسال فرقها الميدانيَّة؛ لضبط الأسعار.

تأتي هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة في ظلّ أوضاع اقتصاديَّة صعبة وصلت لها مختلف المناطق، نتج عنها غضب، واحتقان شعبي كبير في حضرموت، ظهر بشكل أوضح على شكل احتجاجات مستمرَّة، وقطع للطرقات، وعصيان مدني شلَّ الحياة التجَّاريَّة في المكلاَّ لعدَّة أيام. أي إنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة أتت في وقت كان فيه الوضع الشعبي على وشك الانفجار.

أمَّا من الناحية الاقتصاديَّة فوفقًا لتقرير منظَّمة الغذاء الدوليَّة لشهر يونيو، فعلى أساس سنوي، كان تضخُّم أسعار المواد الغذائيَّة واضحًا للغاية في المناطق المحرَّرة، ويعزى ذلك بشكل رئيس إلى ضعف العملة، وارتفاع تكاليف الوقود. في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنيَّة؛ فارتفعت تكلفة المواد الغذائيَّة الأساسيَّة بشكل ملحوظ؛ إذْ ارتفعت بنسبة 37% على أساس سنوي، و49% فوق متوسِّط السنوات الثلاث.

كلُّ هذا يتزامن أيضًا مع اضطرابات في الخدمات الأساسيَّة مثل الكهرباء، فقد عانت المكلاَّ عاصمة محافظة حضرموت في يوليو الماضي إلى انقطاعات متكرِّرة في الكهرباء تصل إلى ثماني عشرة ساعة يوميًّا، قبل أن تنقطع بشكل كامل لما يزيد عن أربع وعشرين ساعة متواصلة.

كما أنَّ هنالك حالة من الامتعاض العام بسبب تدنِّي الأجور، خصوصًا لدى فئة المعلمين فقد نظم المعلمون في حضرموت عدَّة وقفات احتجاجية في وقت سابق، كما توقفت العمليَّة التعليمية في عدن لأسباب تتعلق بالظروف الاقتصاديَّة الصعبة التي يعيشها المعلمين هناك أيضا.

هذه الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها المناطق المحرَّرة تعطي صورة أوضح حول مدى حاجة المواطنين في مناطق سيطرة الشرعيَّة لهذه الإصلاحات، وهو ما قد يفسِّر مدى الحفاوة الكبيرة التي ظهرت بوضوح اتجاه هذه الإصلاحات، والمتابعة المستمرَّة من قبل شريحة واسعة من الجمهور وخصوصًا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لمعرفة الأسعار اليوميَّة للسلع، ومتابعة أنشطة فرق مكتب التجَّارة في مختلف المناطق لمحاولة ضبط الأسعار.

ما هي الإصلاحات الاقتصاديَّة التي قامت بها الحكومة؟

الإصلاحات الاقتصاديَّة في المناطق المحرَّرة، كانت موضع الاهتمام في الفترة الأخيرة؛ إذْ إنَّ هذه الإصلاحات تمثِّل خطوات تتَّخذها الحكومة؛ لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وضمان أن ينعكس التحسُّن الاقتصادي على حياة الناس بصورة مباشرة.

ركَّزت هذه الإصلاحات بشكل رئيس على تحسين الصرف، ومنع المضاربة، وضبط الأسواق، وتفعيل الرقابة على الأسعار، إلى جانب تعزيز التنسيق بين مؤسَّسات الدولة بما يكفل تحقيق استقرار اقتصادي يلمسه المواطن في تفاصيل حياته اليوميَّة. فقد أصدرت الحكومة قرارًا يحظر استخدام العملات الأجنبيَّة في المعاملات التجَّاريَّة والخدميَّة والتعاقدات الماليَّة، بما يعيد الاعتبار للريال اليمني كرمز سيادي، ووسيلة رسميَّة للتبادل. وتزامن ذلك مع تعزيز الرقابة الميدانيَّة عبر تكثيف النزول الميداني لفرق التفتيش بالتنسيق مع السلطات المحلِّيَّة، والغرف التجَّاريَّة؛ لضمان التزام الأسواق بالأسعار العادلة، ومنع أيِّ تلاعب أو مضاربة.

وعلى الصعيد المالي، أكَّد مجلس إدارة البنك المركزي أهميَّة المضي في إصلاحات هيكليَّة تهدف إلى تعزيز الموارد العامة، وترشيد الإنفاق، وتحقيق الاستدامة الماليَّة، إلى جانب تنفيذ إجراءات صارمة ضدَّ المضاربة بأسعار الصرف، وإغلاق شركات الصرافة المخالفة لإعادة الانضباط إلى السوق.

ففي الرابع والعشرين من يوليو، بدأ البنك المركزي اليمني في عدن بوقف عمليَّات المضاربة، وأطلق حملة تفتيش ميدانيَّة؛ للحدِّ من المضاربة والتلاعب بالعملة، كما علّق أو ألغى تراخيص أكثر من خمسين منشأة صرافة. وبدعم من الحكومة، والسلطات المحلِّيَّة، كان لهذا التطبيق المنتظر للوائح الماليَّة دور أساس في إيقاف تدهور قيمة الريال.

إنَّ المضاربة في سوق العملة كانت واحدة من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف العملة، وخصوصًا مع تزايد أعداد شركات الصرافة، والتي كثير منها قد ظهر بعد 2015م، وهو ما يشكِّل ضغطًا هائلًا على الوضع الاقتصادي في المناطق المحرَّرة. وعلى الرغم من العدد الكبير من منشآت الصرافة التي تمَّ إغلاقها لليوم، إلاَّ أنَّ البنك المركزي لا يزال مستمرًا في تكثيف جهوده في إغلاق المزيد من المنشآت إلى لحظة كتابة هذا المقال.

كما شكَّل إنشاء اللجنة الوطنيَّة لتنظيم، وتمويل الاستيراد نقطة مهمَّة في مسار الإصلاحات الحكوميَّة. فقد صدر قرار تشكيلها عن رئيس مجلس الوزراء؛ لتكون أداة مركزيَّة لضبط عمليَّات الاستيراد، بعدما ظلّ هذا الملف لعقود، أحد أكبر مصادر استنزاف العملة الصعبة، وتغذية السوق الموازية.

في العاشر من أغسطس 2025م، بدأت اللجنة عملها رسميًّا باستقبال طلبات المصارفة، والتحويل من التجَّار عبر البنوك وشركات الصرافة، وفق آليَّة مشدَّدة تقوم على التحقق من الوثائق ورفعها إلى اللجنة؛ لدراستها قبل منح الموافقة أو الرفض. وأكَّد البنك المركزي أنَّه لن يُسمح بدخول أيِّ بضائع عبر المنافذ الجمركيَّة ما لم تستوفِ هذه الإجراءات، في خطوة تستهدف إنهاء فوضى الاستيراد، وإغلاق الباب أمام تدفُّق السلع عبر قنوات غير رسميَّة.

هذه الخطوات المهمَّة أدَّت إلى تحسُّن في سعر الصرف، والتفسير العلمي لهذا التحسُّن في صرف العملة يمكن ردُّه إلى تقليص حجم المضاربة في سوق الصرف، وهو ما انعكس سريعًا على استقرار العملة الوطنيَّة، وارتفاع قيمتها نسبيًّا أمام العملات الأجنبيَّة. هذا التحسُّن في سعر الصرف، من منظور اقتصادي، يُعدُّ نتيجة طبيعيَّة لضبط جانب الطلب على النقد الأجنبي، وتقييد الأنشطة غير القانونيَّة التي كانت تضغط على قيمة الريال، خصوصًا مع إغلاق عدد كبير من محلاَّت الصرافة التي أثبتت أنَّها مخالفة.

في الوقت نفسه، جاءت قرارات الحكومة بحظر التعامل بالعملات الأجنبيَّة في السوق المحلِّي؛ لتعيد الاعتبار للريال اليمني كوسيلة رسميَّة للتبادل، وهو ما يرفع من مستوى الثقة بالعملة الوطنيَّة، ويزيد من حجم الطلب عليها داخليًّا، خصوصًا أنَّ كثير من السلع، والخدمات في المناطق المحرَّرة أصبحت بالريال السعودي، مثل سعر العقارات والسيارات، بل وأيضًا إيجار البيوت في بعض الأحيان، وهو ما يعني طلبًا كبيرًا على العملات الأجنبيَّة.

إنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة، وما أنجزته من تأثير على الواقع الاقتصادي اليوم، فتح المجال أمام الكثير من التكهُّنات، والكثير من التفاؤل حول تحسُّن الصرف، إلاَّ أنَّه من ناحية أكثر واقعية؛ فإنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة في اليمن مرهونة بمدى قدرة الحكومة، والبنك المركزي على تحويل الإجراءات الحاليَّة من معالجات مؤقَّتة إلى سياسات مؤسَّسية دائمة. فالتحسُّن الذي طرأ مؤخَّرًا على سعر صرف الريال، نتيجة ضبط المضاربة، وإغلاق شركات صرافة مخالفة، هو نجاح مهم لكنَّه يظلُّ هشًا إذا لم يُدعم بإصلاحات هيكليَّة عميقة تشمل توحيد الإيرادات، وتفعيل الموازنة العامة، وضبط الإنفاق الحكومي.

على المدى القصير، من المتوقَّع أن تؤدِّي هذه الإصلاحات إلى استقرار نسبي في سعر الصرف، وانخفاض تدريجي في أسعار بعض السلع الأساسيَّة، إلاَّ أنَّ هذا الانخفاض في أسعار السلع يجب أن يكون مرتبطًا بشكل رئيس مع حملات مستمرَّة من قبل وزارة التجَّارة في مختلف المناطق لتخفيض الأسعار. وهو الأمر الذي يمكن لنا أن نرى فيه نوعًا من التذبذب.

أمَّا على المدى المتوسِّط، فإنَّ الأثر الحقيقي لهذه الإصلاحات سيتوقَّف على مدى التزام جميع الأطراف بتوريد الإيرادات إلى البنك المركزي. إلاَّ أنَّ هذا الأمر قد يتعارض بشكل رئيس مع مصالح الكثير من القوى، والشخصيَّات التي ظهرت بعد حرب ٢٠١٥م. وهو ما قد يشكِّل عائقًا أمام تنفيذ إصلاح اقتصادي حقيقي.

فالأمر إذًا يعتمد في مدى قدرة الحكومة على فرض سلطتها على العديد من قوى النفوذ في المناطق المحرَّرة. بما في ذلك العديد من الجهات السياديَّة التابعة للدولة التي لا تقوم بتوريد الأموال إلى البنك المركزي.

وقد تباينت الآراء في مدى دعم أمريكا لهذه الإصلاحات الاقتصاديَّة؛ إذْ يدافع البعض بأنَّ إعادة تصنيف وزارة الخزانة الأمريكيَّة للحوثيِّين كمنظَّمة إرهابية أجنبيَّة في يناير/كانون الثاني أثَّر في إجبار المؤسَّسات الماليَّة اليمنيَّة على الخضوع للحكومة الشرعيَّة، وقد دفع التهديد بفرض عقوبات البنوك في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيِّين إلى نقل عمليَّاتها الرئيسة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، ممَّا عزَّز قدرة البنك المركزي اليمني في عدن على مراقبة العمليَّات، وتدفُّقات التحويلات الماليَّة، وهي خطوة حاسمة لدعم الريال.

بينما قال المتحدَّث باسم جمعيَّة الصرَّافين، صبحي باغفَّار في تصريحات صحافيَّة إنَّ الانخفاض الملحوظ في أسعار الصرف ليس أمرًا عشوائيًّا، أو مفاجئًا، بل نتيجة خطَّة مدروسة وُضعت قبل عامين بين جمعيَّة الصرَّافين، والبنك المركزي، وبدأ تنفيذها فعليًّا قبل نحو شهر ونصف الشهر بشكل غير معلن، وجرى العمل على ذلك في سريَّة تامَّة؛ لضمان نجاح الخطة.

في هذا السياق قال الأستاذ أحمد (اسم مستعار)، وهو موظَّف كبير في أحد البنوك الرئيسة في مدينة المكلاَّ، تمَّت مقابلته لكتابة هذا المقال: إنَّ ” الإصلاحات الاقتصاديَّة الأخيرة هي قرار حكومي بشكل رئيس، ومهما كانت طبيعة الدعم المقدَّم خارجيًّا، ومن أي دولة كانت، فلا يمكن لهذه الإصلاحات أن تنفَّذ على أرض الواقع، وتحقِّق النتائج المرجوَّة إلا بسلطة الحكومة”.

مؤكِّدًا أنَّ الأمر يبدأ وينتهي بيد الحكومة بشكل رئيس، وأنَّ الدعم الشعبي، والدعم الخارجي لهذه الإصلاحات قد تساعد في تحقيق أهدافها، ولكن لن يكون لها قيمة حقيقيَّة إنْ لم يكن لدى الحكومة الإرادة السياسيَّة الحقيقية. فالذي اختلف هذه المرَّة مقارنة بجميع المرَّات السابقة التي ينخفض فيها الصرف بشكل طفيف، بأنَّ الحكومة أبدت عزيمة حقيقيَّة للإصلاح.

ما تحدِّيات الإصلاحات الاقتصاديَّة؟

على الرغم من تأكيد دولة رئيس الوزراء سالم بن بريك على أهميَّة الإصلاحات السياسيَّة، وضبط الأسعار، إلاَّ أنَّ هنالك تحدِّيات كبيرة تواجه هذه الإصلاحات. وأهم هذه التحدِّيات هي حالة الفوضى التي قد تشهدها الحركة التجَّاريَّة، ويعاني منها التجَّار على وجه الخصوص. فالتعافي المفاجئ للعملة، من دون تنظيم واضح من البنك المركزي لعمليَّات الشراء والبيع بالسعر المعلن، أدَّى إلى حالة من القلق والخوف لدى التجَّار، في ظلّ عدم توفُّر النقد الأجنبي لتغطية الالتزامات الماليَّة المترتِّبة عليهم.

ولتحقيق استقرار أكبر في قيمة الريال، يجب أن تقوم الحكومة الشرعيَّة بمعالجة الملفَّات الاقتصاديَّة الشائكة، وعلى رأسها نقص الموارد، وعجز ميزان المدفوعات، والعمل على تنمية الموارد، وتفعيل المؤسَّسات المعطَّلة، ومعالجة عجز الموازنة عبر خطط اقتصاديَّة واضحة مبنيَّة على معطيات دقيقة، بما يمكّن البلاد من تجاوز هذه المرحلة المملوءة بالتحدِّيات.

هذه المخاوف أكَّدها الأستاذ أحمد، فهو يرى بأنَّ القطاع التجَّاري لا يزال ينظر إلى هذه الإصلاحات بتوجُّس وخوف؛ لأنَّه لا يوجد للدولة إيرادات من العملة الأجنبيَّة حتَّى يتعزَّز الريال اليمني فمن المعروف أنَّ تصدير النفط تمَّ إيقافه من قبل الحوثي؛ لذا لا يمكن لنا القول إنَّ الدولة تملك الكثير من النقد الأجنبي الذي تعزِّز به العملة المحلِّيَّة.

خصوصًا مع اعتماد الاقتصاد اليمني بشكل كبير على إيرادات النفط، فقد بلغت إيرادات البلاد من صادرات النفط الخام قبل العام 2014م ما يصل إلى 1.454 مليار دولار. أي ما كان يكفي الماليَّة لتمويل ما يصل إلى 70 في المئة من ميزانيتها؛ لتأمين صرف رواتب موظَّفي الدولة والحكومة بشقِّيها المدني والعسكري. ومنذ سنتين تركَّزت تهديدات الحوثيِّين ضدَّ تعافي الاقتصاد على استهداف ناقلات النفط التي تقترب من موانئ تصديره في محافظتي حضرموت وشبوة، وجرى على الفور إيقاف تصدير النفط في أكتوبر/تشرين الأوَّل 2022م.

إضافة إلى ذلك يخيِّم الخوف أيضًا لدى قطاع واسع من المواطنين، وصغار التجَّار بأنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة قد تتعثَّر بسبب لوبيَّات الفساد التي استغلَّت فترة الحرب، والفوضى في تعزيز نفوذها في القطاع الاقتصادي، والحركة التجَّاريَّة بشكل عام. وإنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة وخصوصًا ضبط الأسعار، ومحاربة المضاربة على العملة قد يشكِّل ضربة قاصمة لهذه اللوبيَّات ممَّا قد يدفعها لمحاولة افشال مساعي الحكومة.

وعلى الرغم من أنَّ هذه المخاوف قد لا تكون مستندة لأخبار موثوقة، أو أرقام رسميَّة، إلاَّ أنَّ الأكيد أنَّ قطاع العملات اكتسب تجَّارًّا ولاعبين مؤثِّرين كثر، ولا شكَّ بأنَّ دفاع هؤلاء عن مصالحهم الاقتصاديَّة أمر واقع لا محالة. لذا فإنَّ المخاوف الرئيسة تشمل أيضًا رضوخ الحكومة تحت ضغط اللوبيَّات، سوى كانت من التجَّار المسيطرين على سوق المضاربة على العملة، ومن بعض الشخصيَّات النافـــذة التي قد تكـــون مقـــرَّبة مـــن بعض الشخصيَّـــات السيـــاسيَّة البارزة.
كيف تفاعلت القوى السياسيَّة مع الإصلاحات الاقتصاديَّة؟

إضافة إلى التفاعل الشعبي الكبير مع الإصلاحات السياسيَّة، والذي يمكن رؤيته بوضوح سوى من رُدُوْدِ فعل المواطنين في الشارع اليوم، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن في ذات السياق أيضًا فقد برزت ردود فعل من قبل القوى السياسيَّة.

فبالإضافة إلى قيادة رئيس مجلس الوزراء بن بريك للإصلاحات الاقتصاديَّة، فقد كانت هنالك رُدُوْدُ فعلٍ إيجابيَّة من مجلس القيادة الرئاسيَّة، ومن ضمنها رئيس المجلس رشاد العليمي الذي أكَّد بأنَّ تحسُّن الصرف مجرَّد الخطوة الأولى أمام تحسُّن اقتصادي أكبر في المستقبل القريب.

كما أكَّد عيدروس الزبيدي، وعبدالرحمن المحرمي، المحسوبان على المجلس الانتقالي أهميَّة الإصلاحات الاقتصاديَّة، ممَّا ينعكس على الحياة اليوميَّة للمواطنين.  بينما لم يكن للمقاومة الوطنيَّة في الساحل الغربي بقيادة طارق عفاش أيّ تصريح أو ردَّة فعل واضحة، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الإصلاح، والجناح التابع للشرعيَّة من حزب المؤتمر.

بالعودة إلى حضرموت فقد أثنى محافظ محافظة حضرموت مبخوت بن ماضي على الإصلاحات الاقتصاديَّة الأخيرة، وأكَّد المتابعة الحثيثة للسلطات المحلِّيَّة لعمليَّة ضبط الأسعار، ومحاربة التلاعب في الأسعار على جميع النطاقات، كالمواد الغذائيَّة، والأدوية، وغيرها من القطاعات.

هذا التجاوب الإيجابي إزا الإصلاحات الاقتصاديَّة يمكن رؤيته أيضًا من خلال تأكيد الأمين العام للمجلس المحلِّي بمحافظة حضرموت، صالح عبود العمقي، والذي أكَّد على أهميَّة النزولات الميدانيَّة وتشديد الرقابة؛ لضبط أيِّ مخالفات في الأسعار.

ولم يتغيَّب المجلس الانتقالي عن هذه التطوُّرات الاقتصاديَّة المتسارعة؛ إذْ أكَّد المجلس الانتقالي أيضًا على أهميَّة جهود الرقابة في الأسواق ممَّا ينعكس بشكل أفضل على تحسُّن أسعار السلع للمواطنين. بينما لم يعلِّق حلف قبائل حضرموت، ومجلس حضرموت الوطني، والمجلس الموحد للمحافظات الشرقيَّة على هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة إلى الآن.

ومع ذلك فإنَّ رُدُوْدَ الفعل الإيجابية هذه من مختلف القوى السياسيَّة إنَّما تؤكِّد بأنَّ هنالك نوع من الاتفاق المبدئي بين جميع الأطراف، على الرغم من بعض الاختلاف في وجهات النظر السياسيَّة على أهميَّة هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة لما لها من تأثير مباشر على حياة المواطنين. وخصوصَّا في ظلّ الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي عاشته المناطق المحرَّرة في الفترة الأخيرة السابقة لتحسُّن الصرف.

كيف يمكن تعزيز فرص النجاح لهذه الإصلاحات بما يخدم الاقتصاد والمجتمع؟

في ظلّ هذه التغيُّرات الجوهريَّة التي تعيشها المناطق المحرَّرة، وفي ظلّ هذا التحسُّن في سعر الصرف، والإصلاحات الاقتصاديَّة التي يمكن أن يُبنى عليها تحسُّن اقتصادي مستدام في المستقبل، يبقى السؤال: كيف يمكن تعزيز فرص النجاح لهذه الإصلاحات؟

طرحنا هذا السؤال على الأستاذ أحمد، فأكَّد بأنَّ الرقابة الشعبيَّة مهمَّة للغاية في مثل هذه اللحظات الحرجة في عمليَّة الإصلاح الاقتصادي؛ إذْ يمكن أن يكون للسلوك الواعي الذي يتَّخذه عموم المواطنين دور كبير في مراقبة السوق، وتسهيل عمل لجان ضبط الأسعار التابعة للسلطات المحلِّيَّة في المناطق المحرَّرة، وذلك من خلال التبليغ الصحيح على أيِّ مخالفة يقوم بها أيّ قطاع تجَّاري. إلاَّ أنَّ هذه الرقابة الشعبيَّة تستدعي أيضًا معلومة صحيحة، واستشعار المسؤوليَّة عند التبليغ.

في الوقت ذاته، فإنَّ من المهم أيضًا أنْ يكون للمواطنين دور حقيقي في الضغط الشعبي المستمر، والداعم للحكومة في حربها ضدَّ لوبيَّات الفساد، وضدَّ التلاعب بالأسعار؛ إذْ إنَّ هذه الإصلاحات يجب أنْ تكون مسؤوليَّة مشتركة بين الحكومة وأجهزتها الرقابيَّة، والشعب بقدرته على الضغط الشعبي والإعلامي، والرقابة الشعبيَّة.

إلاَّ أنَّه وبالموازاة مع ذلك، لا يجب أن تكون الإصلاحات الاقتصاديَّة بوابَّة لتعطيل الحركة التجَّاريَّة، أو التعدِّي على المصالح الاقتصاديَّة للقطاعات التجَّاريَّة، أو نشر الإشاعات، أو الوقوع ضحيَّة للمكايدات من بعض الأطراف في السوق التجَّاريَّة؛ لغرض تشويه سمعة بعض التجَّار.

ماذا بعد الإصلاحات الاقتصاديَّة؟

أعادت الإصلاحات الاقتصاديَّة الأخيرة الأمل إلى نفوس المواطنين بأنَّ هنالك إمكانيَّة لحدوث تحسُّن اقتصادي. وأنَّ انهيار صرف العملة يمكن إيجاد حلٍّ له. فقد أتت الإصلاحات الاقتصاديَّة؛ لتحرِّك المياه الراكدة التي يئس الكثير من قطاعات الشعب من إمكانية تحريكها. وجاءت لتعزِّز الثقة في الحكومة ليس فقط داخليًّا، بل دوليًّا أيضًا؛ إذْ يمكن البناء على هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة، وخصوصًا في حالة استمرارها؛ لبناء حالة من الثقة لدى المجتمع الدولي، والذي بدوره يمكن له أن ينعكس على مستقبل أفضل ليس فقط اقتصاديًّا، بل وسياسيًّا أيضًا.

إنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة الأخيرة تدلُّ على أمرين في غاية الأهميَّة، الأوَّل: أنَّ الشعب قد وصل إلى مرحلة متقدِّمة من الاحتقان، والغضب تجاه الأوضاع الحاليَّة، وهو ما يجعل عودة انهيار الصرف، أو فشل الحكومة في ضبط الأسعار أمرًا خطيرًا، قد يؤدِّي إلى احتجاجات شعبيَّة أكثر غضبًا، بل وربَّما قد يؤدِّي إلى تطوُّرات سياسيَّة غير متوقَّعة.

أمَّا الاخر: فهو أنَّ الشعب قد وصل إلى مرحلة يأس شبة كاملة؛ بسبب تعاقب فشل الحكومة في حلِّ الوضع الاقتصادي، خصوصًا أنَّ الحكومة، وبما في ذلك مجلس القيادة الرئاسي يعاني من وجهات نظر، ومشاريع سياسيَّة مختلفة؛ ممَّا كان سببًا في تعزيز الانقسام، وهو ما كان سببًا رئيسًا للإخفاق الاقتصادي؛ لذا فإنَّ تضارب هذه المشاريع قد يشكِّل عائقًا على حدوث إصلاح اقتصادي حقيقي ومستدام.

إلاَّ أنَّ النجاح المحقَّق الاقتصادي إلى الآن، وإنْ لم يكن كليًّا للإصلاحات الاقتصاديَّة، يثبت بأنَّ الشعب قد انتظر هذه اللحظة منذ فترة طويلة، وأنَّه لن يعود للتسامح، أو قبول أيّ فشل آخر في الجانب الاقتصادي بعد اليوم. وهو ما قد يشكِّل ضغطًا أكبر على هذه الحكومة، أو أيّ حكومة مستقبليَّة.

تتباين وجهات النظر حيال دلالة هذه الإصلاحات الاقتصاديَّة على الواقع السياسي الداخلي؛ فبينما تذهب بعض الآراء بأنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة هذه هدفها خنق الحوثيِّين اقتصاديًّا، ودلالة هذا أنَّ لجنة الرقابة على المدفوعات، والتي تمَّ تشكيلها كجزء من الإصلاحات الاقتصاديَّة، تلزم التجَّار بالإفصاح المسبق عن البضائع المستوردة قبل حصولهم على الاعتمادات المستنديَّة، وهذه اللجنة ستراقب كلّ دولار يطلب لغرض الاستيراد. وأيّ تفاوت بين المبلغ المخصَّص للاستيراد، والكميَّة المستوردة سيُعدُّ مؤشرًا على غسل أموال، أو تهريب عملة أجنبيَّة إلى الخارج. وهذه الآليَّة من شأنها أنْ تحدَّ من تمويل المليشيا، وتكشف الكثير من الشركات المتعاونة معها. ويستند هذا الرأي بأنَّ الإصلاحات الاقتصاديَّة مسنودة بدعم خارجي أمريكي. وأمريكا تهدف إلى تصعيد محاربتها للحوثيِّين اقتصاديًّا.

بينما يذهب آخرون للقول، بأنَّ الهدف من هذه الإصلاحات هي توحيد العملة بين مناطق الشرعيَّة والحوثيِّين، كتمهيد لتنفيذ اتفاق السلام، والذي قد يشكِّل نهاية للحرب في اليمن، خصوصًا مع تردُّد السعودية في الدخول في جولة تصعيد جديدة ضدَّ الحوثيِّين. ويستند هذا الرأي بأنَّه وعلى الرغم من حماسة إسرائيل/أمريكا للحرب ضدَّ الحوثيِّين إلاَّ أنَّ السعودية والإمارات لم يبديا أي اهتمام للعودة للحرب ضدَّ الحوثيِّين من جديد.

بينما يرى البعض بأنَّ هنالك محاولة لشنِّ هجمة اقتصاديَّة ضدَّ الحوثيِّين، بعد فشل الخيار العسكري، وعلى الرغم من أنَّ الإصلاحات السياسيَّة تهدف بشكل رئيسٍ؛ لمنع استمرار التدهور الاقتصادي في مناطق سيطرة الشرعيَّة، إلاَّ أنَّه قد تستخدم كأداة ضدَّ الحوثيِّين. وفي ظلّ التحشيد المستمر للحوثيِّين لأيِّ مواجهة داخليَّة، فهذا قد يكون مؤشِّر لاحتماليَّة انفجار الأوضاع مستقبلًا.

اليوم وبعد مرور ما يقارب الشهر على بدء الإصلاحات الاقتصاديَّة في المناطق المحرَّرة، يكثر التكهُّن حول مستقبلها، ومدى قدرة هذه الإصلاحات على خلق تأثير مستدام، قادر على الصمود في ظلّ حالة من الغموض والضغوط الاقتصاديَّة، خصوصًا في ظلّ شحة مخزون الدولة من العملة الصعبة. إلاَّ أنَّ الأكيد أنَّ ما نعيشه اليوم يشكِّل لحظة حاسمة ومفصليَّة، فإمَّا أنْ تستمرَّ الحكومة في تحقيق أهدافها الاقتصاديَّة، ومحاربة المضاربة في سوق العملات، وضبط الأسعار، أو سنكون في مواجهة انفجار شعبي ليس له مثيل. وعلى الرغم من ضبابيَّة المشهد، إلاَّ أنَّ الأكيد أن ما قبل الإصلاحات الاقتصاديَّة التي بدأها دولة رئيس الوزراء بن بريك، لن تكون أبدًا مثل بعدها، ليس فقط اقتصاديًّا، بل وشعبيًّا أيضًا، بل وربما سياسيًا كذلك.

 

لتحميل الورقة أنقر هنا

غلاف يحتوي على نماذج نقود من فئة 1000 ريال يمني و 100 دولار

الإصلاحات الاقتصاديَّة في المناطق المحرَّرة
بين الأســباب الاقتصــاديَّة والـــدلالات السيـــاسيَّة